آفاق علمنة الدستور السوداني.. قراءة في اتفاق العسكر واليسار

- ‎فيتقارير

هل يبتعد السودان عن "الشريعة" بعد اتفاق العسكر واليساريين؟

أحد أبرز معالم السودان بعد تحالف الإسلاميين والعسكر عقب 1989م كان هو الشريعة الإسلامية، التي ظل النص عليها أمرا طبيعيا في كل مواثيق ودستور السودان، ولم يكن يعترض عليها – برغم عدم تطبيقها بالكامل – سوى فريق من اليساريين والعلمانيين والحركة الجنوبية التي استقلت بدولة الجنوب.

لهذا استغرب السودانيون قبل العالم أن تخرج "الوثيقة الدستورية" التي وقّع عليها المجلس العسكري، مع القوى اليسارية والعلمانية التي تقود حراك السودان الحالي بدون النص على الشريعة الإسلامية.

فالوثيقة التي جرى التوقيع عليها 4 أغسطس 2019 على أن يتم التوقيع النهائي في الـ17 من الشهر الجاري أغفلت تحديد مصدر التشريع، ولم تحدد العربية اللغة الرسمية للبلاد، وحددت الفترة الانتقالية بأربع سنوات؛ ما يعني سيطرة قوى لم ينتخبها الشعب السوداني ومختارة من اليساريين بعد إقصاء الإسلاميين لحكم البلاد، واقترحت تغيير الأقاليم إلى ولايات.

وسيتم في 18 أغسطس الإعلان عن تشكيل مجلس السيادة الذي سيدير البلاد خلال فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات، وتؤدي إلى انتخابات، وسيتم تعيين رئيس الوزراء يوم 20 أغسطس، وستعقد الحكومة أول اجتماع لها في 28 أغسطس، كما سينعقد أول اجتماع مشترك بين مجلس الوزراء ومجلس السيادة في أول سبتمبر 2019.

والغريب انه بينما جرى إقصاء كل الإسلاميين من هذه الاتفاقات بين العسكر والقوى اليسارية بدعوى عدم إشراك أنصار النظام السابق وهم يعلمون أن الإسلاميين ابتعدوا عن نظام البشير منذ سنوات، زعم عمر الدقير القيادي في قوى الحرية والتغيير أن المرحلة القادمة "ستشهد إتمام المصالحة وإنهاء نهج الإقصاء في السودان"!.

لماذا وافق العسكر على إقصاء الشريعة؟

في مايو الماضي وفي خضمّ الحديث عن التفاوض حول الوثيقة الدستورية، خرج المجلس العسكري الحاكم في السودان ليفضح "قوى الحرية والتغيير" التي تتشكل من أغلبية من اليساريين، ويقول إنها "أغفلت الشريعة الإسلامية مصدرًا للتشريع في وثيقتها الدستورية".

واتهم المتحدث باسم المجلس العسكري الفريق الركن شمس الدين كباشي قادة الاحتجاج، في مؤتمر صحفي، بإقصاء الشريعة، مؤكدًا "أنه يجب أن تبقى الشريعة الإسلامية مصدرًا للتشريع، آخذًا على قوى إعلان الحرية والتغيير إغفالها مصادر التشريع في الاقتراحات التي قدّمتها بشأن المرحلة الانتقالية المقترحة.

وأضاف أنّ "الوثيقة الدستورية لقوى إعلان الحرية والتغيير أغفلت مصادر التشريع، ويرى المجلس أن تكون الشريعة الإسلامية والأعراف مصدرًا له"، ومع هذا وافق المجلس العسكري على الوثيقة وعلى إقصاء الشريعة منها!!

وثيقة تغفل هوية الشعب الإسلامية

ظلت قوى الاستعمار وقوى علمانية ويسارية سودانية تعادي الشريعة الإسلامية، تطالب بتمييع هوية السودان ولمطالبة بإغفال الشريعة من دستوره خلال حكم الرئيس السابق البشير، وكان إبعاد الشريعة هو أحد مطالب الحركة الشعبية الجنوبية (حركة قرنق) خلال مفاوضات واستفتاء الانفصال.

وتصور سودانيون أن يؤدي انفصال دولة الجنوب إلى تمكين الشريعة الإسلامية في بلادهم، بعدما انفصل الجنوبيون بدولتهم، إلا أن دعوات إبعاد وإقصاء الشريعة استمرت ولكن ظل نظام البشير محافظًا على وضع الشريعة في الدستور.

الآن بعد الثورة على البشير وانقلاب جنرالات الجيش الموالين للإمارات وسيطرتهم على الحكم بدأت خطط التخلي عن الشريعة تدريجيًّا عبر الوثيقة الدستورية.

فالوثيقة الدستورية التي كان سودانيون يطالبون بها لتكمل فرحتهم وتؤسس لانتهاء حكم العسكر جاءت مخيبه لكل الآمال في العديد من بنودها ومضامينها على النحو التالي:

(أولا): إغفال دين الدولة وهو الاسلام والذي ظل منصوصًا عليه في كل الدساتير التي حكمت البلاد ومصدر التشريع، وهو الشريعة الإسلامية واللغة الرئيسية وهي العربية.

(ثانيا): إعطاء حق التشريع لمدة ثلاث سنوات لمجلس معين غير منتخب يخالف الديمقراطية والمدنية التي تتجسد في انتخابات حرة ونزيهة.

(ثالثا): الوثيقة تكرس وتضع كل السلطات السيادية والتنفيذية والتشريعية والعدلية بيد ثلة غير منتخبة لا تمثل الشعب وذات لونية سياسية واحدة (اليسار) فأعطاها السلطة المطلقة والتي هي مفسدة مطلقة.

(رابعا): تجاهل هذا الاتفاق والوثيقة طيف واسع من القوى السياسية المؤثرة في البلاد.

وقد انتقد أيضًا حزب المؤتمر الوطني السوداني، الحاكم سابقًا في فترة رئاسة عمر البشير، "الوثيقة الدستورية" التي اتفاق عليها المجلس العسكري السوداني والمعارضة اليسارية؛ لأنها أغفلت الشريعة، ولأنها "ثنائية وتقصي كل المكونات السياسية والاجتماعية للبلاد".

وأشار البيان إلى "على خلاف تأكيد دستور 2005 على مرجعية الشريعة الإسلامية في التشريع، نجد أن الاتفاق سكت عن ذلك، تاركًا المجال واسعًا أمام توجهات علمانية مطروحة في الساحة هي الأبعد عن روح الشعب وأخلاقه".

وقال حزب المؤتمر: إن الاتفاق "يمضي في ذات النهج الدكتاتوري في تشكيل مجلس تشريعي بأغلبية من لونية سياسية واحدة، وإن تعددت وجوهها ولافتاتها، دون أي انتخابات أو تفويض، لتصادر سلطة الشعب في التشريع، عبر قوانين ذات طبيعة سياسية بما يتوافق مع أجندتها الحزبية في تصفية حساباتها".

واعتبر أن الوثيقة "تعقد مستقبل الفترة الانتقالية، وستشوبها ممارسات سياسية متوقعة تقوم على الإقصاء والعزل والشمولية.

أيضا الوثيقة والاتفاق عمدا إلى تغيير نظام الحكم من نظام رئاسي إلى نظام برلماني بدون أي تفويض شعبي عبر برلمان منتخب، بما ينذر بحجم الانتهاكات المتوقعة في مجال الحريات العامة والنشاط السياسي، ويقود البلاد إلى نظام دكتاتوري مستبد جديد.

وقد أكد تيار (نصرة الشريعة ودولة القانون) في السودان أنه لن يقر أي اتفاق سياسي لا يتفق مع" قيمنا "، وشدد على أن من يصف التغيير الذي حدث بالبلاد بأنه ضد الإسلام السياسي، واهم وخارج منطق الماضي والحاضر.

ويرفض "تيار نصرة الشريعة ودولة القانون" أي تنحية للشريعة الإسلامية عن إدارة الدولة والحياة".

ودعا الأمين العام للتيار محمد الجزولي المجلس العسكري للدخول في مرحلة انتقالية آمنة متفق ومتراضٍ عليها من كل مكونات الشعب السوداني والقوى السياسية، تتسم بالتصافي والتصالح السلمي والسياسي لضمان انتخابات حرة ونزيهة تديرها حكومة مستقلة ليست مسيسة لا تنتمي لليسار أو اليمين، تسلم فيها السلطة للحكومة المنتخبة.

وتطالب مجموعة من الأحزاب والحركات الإسلامية السودانيين بالتظاهر منذ مايو الماضي أمام القصر الجمهوري في الخرطوم ضد الاتفاق بين المجلس العسكري الحاكم للبلاد وتحالف قوى الحرية والتغيير الذي يقود حركة الاحتجاج في وسط الخرطوم، ويقولون إنه "اتفاق اقصائي"، ويتجاهل تطبيق الشريعة الاسلامية".

وقال الطيب مصطفى، رئيس تحالف 2020 الذي يضم عدّة أحزاب وحركات تدعم اعتماد الشريعة في القانون وتناهض الأفكار العلمانية وبينها حزب المؤتمر الشعبي الذي كان في الماضي متحالفا مع الرئيس المعزول عمر البشير: "السبب الرئيسي لرفض الاتفاق أنه تجاهل تطبيق الشريعة الإسلامية.. منتهى اللامسوؤلية وإذا تم تطبيقه سيفتح أبواب جهنم على السودان".

ولا يشكل الإسلاميون جزءا من القوى السياسية التي تجمعت داخل تحالف قوى الحرية والتغيير الذي يفاوض مع العسكريين حول مرحلة انتقالية منذ عزل البشير في 11 أبريل على يد الجيش، ويدعون لرفض الاتفاق الإقصائي لهم ورفض اقصاء الشريعة عن الوثيقة ويهددون بمظاهرات واعتصامات ضد هذا الانقلاب علي هوية السودان الاسلامية.