ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول

- ‎فيمقالات

ظاهرة جديدة، ميدانها مواقع التواصل الاجتماعى، وأبطالها شباب الحركة الإسلامية، وهى مهاجمة هؤلاء الشباب لكل من يختلف معهم، ولو كان من خندقهم نفسه؛ لنقد أو رأى يراه. والاختلاف سنة كونية واجتماعية، يوحى بالتكامل والتناغم، لكنه على طريقة هؤلاء الشباب فهو (خلاف)، وهو شرٌّ محضٌ؛ لأنه نتاج هوى، والهوى مطية الشيطان إلى التنازع والفشل.

إن من المعلوم أن المصلح لا ينجو من الأذى (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ) [الأنعام: 34]، ولقد عُلِّم النبى ﷺ هذا الأمر مبكرًا، عند مفتتح الرسالة، كان يظن أن المصلح لا يصيبه محنة فقال لورقة: «أومخرجىَّ هم؟!» قال ورقة: (لم يأت رجلٌ قط بمثل ما جئت به إلا عودى)، فيظل الرجل فى دعة ما بقى جيفة غير آمر بمعروف أو ناهٍ عن منكر، فإذا شرع فى الإصلاح عاداه المحيطون، وربما كان منهم أهله ومن يعول. لما جاء عبد الله بن سلام إلى النبى مسلمًا، وكان حبرًا فى يهود، قال لهم النبى ﷺ: «أىُّ رجل فيكم عبد الله بن سلام؟»  قالوا: سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال ﷺ: «أرأيتم إن أسلم» قالوا حاشا لله ما كان ليسلم [ثلاث مرات]، قال ﷺ: «يا ابن سلام اخرج إليهم»، فخرج فشهد شهادة الإسلام، فقالوا: شرُّنا وابن شرِّنا، وتنقصوه.

ولو التفت الداعية إلى كل صيحة لانتهى به الحال إلى اليأس والقنوط، ولو ردَّ على كل كاتب ومتحدث لقضى وقته فى التعليق والتعقيب ولضاعت منه الفريضة والنافلة، بل عليه أن يصنف الناس؛ فمن كان معاديًا مجاهرًا بالعداوة فلا يلزمه جداله والدخول معه فى حوار عقيم، بل عليه إقامة  الحجة عليه وتبيين الصواب له؛ فتلك المعذرة إلى الله، ولعل الضال أن يهتدى، والشارد أن يرجع، ثم عليه أن يظهر له أحسن الأخلاق وأرق   الخصال، وكما قال النبى ﷺ لعبد الله -ابن المنافق ابن سلول-: «بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقى معنا». 

أما إن كان ممن يختلفون معه فى الرأى أو الطريقة فالأمر هيِّن، فإنّ هناك قاعدة ذهبية وضعها صاحب المنار (رشيد رضا) –رحمه الله- تقول: (نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه)، وهذه القاعدة لها أصل فى الشرع، فهى مؤسِسة للاعتصام والوحدة، داعمة للأخوة والتعاون والبر، وقد احتفى بها الإمام القرضاوى وكتب عنها كلامًا كثيرًا نقتطف منه قوله: (رحب المصلحون بهذه القاعدة، وحرصوا على تطبيقها بالفعل، وأبرز من رأيناه احتفى بها الإمام الشهيد حسن البنا حتى ظن كثير من الإخوان أنه هو واضعها، ولا مانع أن نتعاون مع بعض المبتدعين فيما نتفق عليه من أصول الدين ومصالح الدنيا ضد من هم أغلظ منهم فى الابتداع أو أرسخ فى الضلال والانحراف وفقًا لقاعدة: «ارتكاب أخف الضررين»).

ويقول ابن القيم –رحمه الله-: (وقوع الاختلاف بين الناس أمرٌ ضرورى لا بد منه؛ لتفاوت أغراضهم وأفهامهم وقوى إدراكهم، ولكن المذموم بغى بعضهم على بعض).

إن التنابذ والتشاحن والاشتباك مع الآخرين على الفروع يضر الدعوة، ويلصق بها ما يُلصَق بالمستبدين والحزبيين، والداعية لا يتعصب لرأى ولا لجهة، ولا يقدس شخصًا ولا هيئة، ولا يتحمس من دون بينة، ولا يسعى لخلق عداوة، بل فى كل سكناته وحركاته هين لين، رقيق الحاشية، ذو حجة ومنطق، وقور غير مندفع، ينزل الناس منازلهم ولو كانوا مختلفين معه، ليس فى قاموسه: (من ليس معنا فهو علينا).

وإذا كان هناك من الفسقة والمجرمين من يستحقون لجم غرورهم والكيل لهم بالمكاييل، وهم من أظهروا العداوة وارتكبوا الجنايات –إلا أن للداعية سمته الذى لا يخرجه عن أخلاقه وأدبه. أما المختلفون فهم أولى بهذا الأدب وتلك الأخلاق، فالرفق الرفق مع المخالفين؛ إذ هو أصل من أصول الدعوة، ومبدأ من مبادئ الشريعة، وانظر إلى سيرة النبى ﷺ فى هذا الأمر تر العجب؛ فقد جاءه زيد بن سعْنة فأخذ بمجامع قميصه وردائه، وعمر بجواره يريد أن يفتك به والشرر يتطاير من عينيه، أراد أن ينتقم لرسول الله ﷺ، فلما أسلم زيد، عاتب النبى ﷺ عمر قائلًا: «إنا كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرنى بحسن الأداء وتأمره بحسن اتباعه».

وإن التعصب لفرد أو لهيئة مما يفقد تعاطف الآخرين معها، ولقد ضرب الإمام البنا –رحمه الله- أمثلة رائعة فى هذا الأمر، مما كان له أثره فى إقبال الناس على دعوته والتفافهم حوله.. يحكى الأستاذ محمد حامد أبو النصر (المرشد الخامس) أنه فى صيف عام (1937) أقيم معسكر تربوى فى قرية «الدخيلة» غرب الإسكندرية، ولما توجهوا لصلاة الجمعة بأحد مساجد القرية قام أحد الإخوة معترضًا طريق الخطيب محاولًا منعه من صعود المنبر، راغبًا فى أن يخطب «البنا» بدلًا منه؛ باعتباره الأعلم والأفصح، إلا أن «البنا» نهاه وقال له: نحن مأمورون ولسنا آمرين، والأداء من حق الإمام الراتب، فسُرَّ الرجلُ لهذا السلوك، وبعد أن انتهى من الخطبة قدمه بإجلال إلى الناس ليلقى موعظته.

وفى عام (1938) عقد طلاب الجماعة مؤتمرًا بدار جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة، وعندما وقف «البنا» للخطابة إذ بأحد الطلاب يهتف بحياته، إلا أنه وقف غاضبًا وقال: (إن اليوم الذى يهتف فيه فى دعوتنا لأشخاص لن يكون ولن يأتى أبدًا، إن دعوتنا إسلامية ربانية، قامت على قاعدة لا إله إلا الله ولن نحيد عنها أبدًا).