«الأعراب» بعد ستين عامًا من النفط

- ‎فيمقالات

ستون أو سبعون عامًا من الثراء الفاحش, بعد قرون  من الفقر والعيلة, كأن رحمة الله هبطت على هذا الجزء القاحل من الدنيا،  فجعلته أغناها بذلك الطين المطمور المسمى «نفطًا»  أو«بترولًا», فهل قام «أهل الجزيرة» بشكر هذه النعمة وتقييدها بعد أن أطعمهم ربهم من جوع وآمنهم من خوف؟

حكى لى صحفى الأجيال, الأستاذ جميل عارف, أنه هبط السعودية زائرًا عام 1948, قبل تصدير النفط فى الستينيات, فوجد مجتمعًا غارقًا فى البداوة, يقتله الجوع والفقر, منقطع الصلة بالحضارة, ووجد الحرم خاليًا من الطائفين والركع السجود, إلا أفرادًا قليلين يؤدون المناسك فى حين تسرح حولهم قطعان هزيلة من الأغنام والماعز.

هذا مشهد من مشاهد البؤس فى تلك المملكة آنذاك والتى كانت أفضل حالًا من الممالك المجاورة التى لم يكن بعضها قد حصل على استقلاله بعدُ أو لم يكن قد اندمج ليشكل الآن عروشًا مارقة. وهناك –بالطبع- مشاهد أخرى أصعب من هذا المشهد تتعلق ببساطة عيش سكان المنطقة ورقة حالهم, وتواضع  مساكنهم, وفقر أسواقهم،  واقتصار تجاراتهم على سلع استهلاكية بسيطة من المنتجات المحلية، الحيوانية والزراعية، فضلًا عن تفشى المعارك القبلية فيما بينهم على أودية الرعى ومواطن الكلأ.

ثم شاء الله –تعالى- للمنطقة أن تصير في أقل من عقدين من أغنى مناطق العالم وأعلاها دخلًا من هذا الذهب الأسود [دخل السعودية من النفط عام 2019 بلغ 219 مليار دولار سنويًّا بمعدل 600 مليون دولار يوميًّا, ويتوقع الخبراء أن يزيد دخلها عام 2020 إلى 232 مليار دولار)؛ فإذا كان قد مر على هذه النعمة الكبيرة ما يزيد على ستين سنة –هل تم استثمار هذا المال الوفير فى النهوض بهذه البلاد, ودعم اقتصادها,  وتوطين العلم والمعرفة والتقنية؟ وهل صارت إحداها نمرًا اقتصاديًّا أو حتى ضبعًا؟ وهل تغير «إنسان» هذه البلاد فصار أكثر تحضرًا وأقل جفاء  وبداوة؟

للأسف الشديد لم يحدث شىء من هذا،  وربما تحولت الطاقة قريبًا إلى بديل غير النفط  -ولا نقول بنفاده حيث تمتلك هذه الممالك أكثر الاحتياطات العالمية-، وربما تشبَّع العالم بما لديه من مخزون, وربما ظهر النفط بكثافة فى بلدان أخرى فقلَّ سعره وبارت تجارته. المؤكد أنه سيحدث انهيار اقتصادى فى هذا الممالك, ولا نبالغ إذا قلنا إنه قد بدأ بالفعل, والشاهد: عجز الميزانيات الذى ظهر فى السنوات الأخيرة, وقيامها باقتراض عشرات المليارات من المصارف الدولية.

بل أخرجت هذه الأموال أسوأ ما فى القوم من أخلاق, وأفحش ما بهم من صفات.. لقد عادوا إلى جاهلية أجدادهم الأولى من الكبر والحمية, والاعتزاز بالآباء والأنساب, ونعرات القبائل والبطون, وانقسم مجتمعهم كالمجتمع البائد إلى سادة وعبيد, أو أشراف وضعفة،  وزادوا على ذلك البذخ والإسراف, والسفه والتبذير، مما لا يخلو من فسق وفجور.

ولو أن هذه الأموال عند أناس صالحين لأحسنوا استعمالها, ولفاض الخير على المسلمين كما فاض فى عهد الخليفة الخامس, لكنها وقعت فى أيدى من لا يعرفون قدر النعم ولا قدر مُنْزِلها, ولا يعرفون من ثمَّ حق الله فيها, لقد ضيعوها فى ملاذهم, واكتنزوا كثيرًا منها فى مصارف الغرب،  وحرموا  شعوبهم منها, وهل من العدل أن تكون عائلات هذه الممالك هى الأغنى فى العالم -حسب ما جاء فى تقرير « سى إن بى سى» الأمريكية حول ممتلكات آل سعود الصادر عام 2018- حيث تمتلك الطائرات الخاصة، واليخوت الفخمة، وأساطيل الهليكوبتر، والقصور الفارهة، فى حين لا تخلو بلادهم  من متسولين فضلًا عن ملايين الفقراء, وفى حين  تعانى التفسخ الاجتماعى, وظواهر مهلكة سجلت فيها أعلى الأرقام، على رأسها الطلاق والبطالة والعنوسة؟

أين ذهبت هذه الأموال ولم نر دولة واحدة أحرزت تقدمًا أو نهضة يجعلها فى مصاف الدول الكبرى أو حتى الصاعدة؟  لقد وزعوها على أبنائهم, واستقدموا الخدم والحشم حتى زادت أعدادهم على أعداد المواطنين, وهم فى كسلهم وعجزهم يعمهون, واشتروا بها أحدث الأسلحة والتى كدسوها بدون استعمال, وأنفقوها فى كبت الحريات, وفى حرب دول الجوار التى شرعت فى التحرر الوطنى, وفى المظاهر الكاذبة والدعايات الزائفة, وقد رأينا إمارات الشر تفنى الأموال الطائلة فى حرب الإسلام ومناهضة المسلمين.

وأين فقراء المسلمين من تلك الأموال؟ بالتأكيد لا حظَّ لهم فيها, وإن سمعنا عن حفر آبار للأفارقة أو دعم دعوى هنا وهناك فغالبه نشاط أهلى, أما الأنظمة فلا تقدم شيئًا للمسلمين يستحق الذكر, بالعكس فهى ترسل لهم الموت كل ساعة, واسألوا أهل اليمن, وسوريا, وليبيا, ولبنان, ومصر. وإن ما يجرى فى قصورهم مدعاة لجلب نقمة الله, وما الذى دعا صدام لمعاداتهم سوى ما كان يصله من فسق وفجور لم تسمع به أذنٌ من قبل, ورغم ذلك يطلق هؤلاء الأمراء والملوك على أنفسهم  مسميات ترقى بهم إلى درجة الملائكة!

سوف يصير الأعراب قريبًا كالمخمور المفلس، الذى يذله الحنين إلى الشراب ويهلكه الفقر, سوف يعودون أقسى قلوبًا وأجحد أفئدة, سوف يعودون إلى خيامهم وإبلهم بسيئات الحضارة وجفاء البادية, يعودون رفقة الشيطان  الذى غرهم، وسط ضحكه واستهزائه بهم، يقول لهم: لا تلومونى ولوموا أنفسكم, لقد غرتكم الأمانى، وأهلكتكم أنانيتكم وجهلكم وبُعدكم عن دين الله،  فصرتم إلى ما صرتم إليه من الذل والصغار.