الحديد.. من البأس الشديد إلى الاستبداد الرشيد بعهد السيسي

- ‎فيأخبار

كتب- محمد مصباح:

 

عبر التاريخ مثل اكتشاف الحديد ثورة صناعية، وقوة أمنية للمجتمعات، منذ عهد نبي الله موسى، وحينما بنى ذو القرنين سدًا لحماية المجتمع من قوم يأجوج ومأجوج.. حتى بدأت أوروبا ودول العالم استخدامه في البناء والتصنيع والتشييد والحماية الأمنية منذ الثورة الصناعية.

 

وفي مصر، كانت بدايات التفكير في إنشاء مصنع للحديد والصلب في مصر، عام 1932 بعد توليد الكهرباء من خزان أسوان، وفي 14 يونيو 1954، أصدر جمال عبد الناصر مرسوم بتأسيس شركة الحديد والصلب في منطقة التبين بحلوان كأول مجمع متكامل لإنتاج الصلب في العالم العربي برأسمال 2.1 مليون جنيه.

 

أطلق المشروع كشركة مساهمة مصرية، وكانت قيمة السهم جنيهين مصريين يضاف إليهما خمسون مليمًا مصاريف إصدار، على أن تسدد قيمة السهم على قسطين أولهما جنيه واحد وخمسون مليمًا (خمسة قروش)، يسدد في الفترة من 21 نوفمبر إلى 20 ديسمبر 1955، والقسط الثانى قيمته الجنيه الثاني ويسدد في الفترة من 20 أبريل إلى 5 مايو 1956.

 

وفى 23 يوليو 1955 تم وضع حجر الأساس الأول للمشروع على مساحة تزيد على 2500 فدان شاملة المصانع والمدينة السكنية التابعة لها والمسجد الملحق بها، بعد توقيع العقد مع شركة ديماگ دويسبرگ الألمانية (ألمانيا الشرقية آنذاك) لإنشاء المصانع وتقديم الخبرات الفنية اللازمة.

 

وفي نفس التوقيت تم تشغيل ميناء الدخيلة لتوريد الفحم اللازم لتشغيل الأفران، وكذلك خط سكك حديدية من الميناء تصل إلى حلوان وخط سكك حديدية آخر لتوصيل خام الحديد من الواحات إلى حلوان. ولم يأت شهر نوفمبر من عام 1957 حتى كانت الأفران الكهربائية الخاصة بصهر الحديد قد بدأت أعمالها بالفعل، وفي 27 يوليو 1958 افتتح عبد الناصر الشركة الوليدة لتبدأ الإنتاج في نفس العام باستخدام فرنين عاليين صُنعا بألمانيا، (وقد تمت زيادة السعة الإنتاجية للمجمع باستخدام فرن عالٍ ثالث صناعة روسية عام 1973، لحقه الفرن الرابع بغرض زيادة إنتاج الشركة من الصلب عام 1979)، ليضم المجمع بذلك أربعة أفران عالية.

 

واعتمد المشروع في إنتاجه على خامات الحديد المتوافرة بكثرة في مناجم أسوان "والتى قدرت مساحتها بـ1250 كيلو مترًا مربعًا، فبالإضافة إلى جودة الخام المستخرج منها تعتبر أقرب مصادر الخامات المصرية إلى طرق المواصلات، كما اعتمد على خام الحديد المتوفر أيضا في الواحات البحرية والبحر الأحمر.

 

وقد بلغ إنتاج المصنع – آنذاك – ما يقرب من 210 آلاف طن ليصل إلى 1.5 مليون طن في فترة السبعينيات من الصلب المشكل على هيئة ألواح مختلفة الأحجام والسمك وقضبان وفلنكات حديدية وبلنجات السكك الحديدية، بالإضافة إلى الزوايا والكمرات والستائر الحديدية وأنابيب ومستودعات البترول وغيرها من احتياجات الصناعة المختلفة والتى كنا نستوردها سنوياً، كذلك أنتج المصنع منتجات أخرى ذات قيمة اقتصادية كبيرة منها السماد الفسفوري، خبث الأفران العالية الذى يستخدم في صناعة الإسمنت وكذلك كميات هائلة من غاز الأفران الذى استخدم لتشغيل بعض الآلات في المصنع ذاته، كما استخدم في توليد الكهرباء.

 

وقد أثبت الصلب المصري امتيازه في جميع الأسواق، واستخدمته فعًلا شركات الملاحة في ترميم سفنها بالحوض الجاف بالإسكندرية.

 

وقد حرصت شركة الحديد والصلب عبر السنين على الاستعانة بالخبرات الدولية المتخصصة، ففى عام 1961 تم التعاقد مع الاتحاد السوفيتى (سابقاً) على إنشاء وحدات جديدة بالمجمع لزيادة إنتاج الصلب من 300 ألف إلى 1.5 مليون طن سنوياً، واعتمد الاتفاق على وقف استخدام خام منجم أسوان واستخدام خام الواحات البحرية للمجمع بأكمله، وهو ما تسبب منذ بدء استخدامه إلى الآن في مشاكل عديدة بسبب ما يحويه من شوائب ضارة، كما تم التعاقد في عام 1986 مع شركة كروپ الألمانية لإعادة تأهيل بعض الوحدات لإضافة نوعية جديدة من المنتجات.

 

وفي 1 يناير 1991 أعلنت كشركة مساهمة مصرية تابعة للقابضة للصناعات المعدنية وتخضع لأحكام القانون 203 لسنة 1991 وتمارس أنشطة انتاج الحديد والصلب والاتجار فيه واستغلال مناجم الحديد وكافة الأعمال المتعلقة بالحديد والصلب.

 

الفساد

 

ومع تفاقم أزمات الفساد السياسي والتلاعب لصالح رجال اعمال مقربين من الرئيس المخلوع حسني مبارك، تحولت صناعة الحديد والصلب التي كانت تديرها الحكومة لواحة من الفشل والفساد، وتسببت سياسات الخصخصة في تخسير الشركات الوطنية، لصالح المقربين من مبارك وعئلته، أمثال احمد عز، الذي بيعت له شركة الدخيلة، بربع ثمنها، بعد سلسلة من الخسائر المقصودة..

 وحاليا تعمل شركة حلوان للحديد والصلب بنحو 25% من طاقتها الكاملة.

 

بسبب حرمان الشركات من فحم الكوك اللازم لتشغيل حلوان للحديد والصلب بالكميات والجودة اللازمة، حيث إن كميات الفحم التي تحصل عليها الشركة حاليا لا تكفي إلا لتشغيل فرن واحد من أفرانها العالية الأربعة، وبأقل من نصف الطاقة الكاملة لذلك الفرن. 

وللغرابة، التي رصدها تقرير شركة تاتا العالمية، لاعادة تأخيل مصانع الحديد في مصر والصادر ، منذ العام 2014، فإن الشركة المصرية لفحم الكوك تنتج مايكفي لتشغيل مصنع حلوان بطاقته الكاملة أربع مرات، ولكنها تمتنع عن تزويده باحتياجاته، رغم تبعية الشركتين لنفس الشركة القابضة.

 

الحديد للاستبداد السياسي

 

ومنذ عقود، تواصل رجال اعمال تخصصوا في انتاج الحديد والصلب، في توجيه دعمهم للنظام القائم، منذ عهد مبارك، حيث قاد احمد  عز امين تنظيم الحزب الوطني المنحل، حملات دعم مبارك وترشحه للتمديد لرئاسة مصر، طوال مراحل الاستبداد التي عاشتها مصر منذ 1980 وحتى 2010.

 

ومن باب المجاملة ورد الجميل، لاحمد عز، تنازل مبارك ونجله جمال، عن شركات الحديد والصلب التي تم خصخصتها  لصالح أحمد عز، وتم تشريد الالاف العمال وتحويلهم الالاف غيرهم للمعاش المبكر.

 

السيسي بين المناكفة ورد جميل أبو هشيمة

 

مؤخرًا، شهدت أسعار الحديد في مصر قفزات متواصلة،  لم يشهدها السوق المحلي من قبل حتى في "عامي الاحتكار" 2007-2008، واللذين سيطر خلالهما إمبراطور الحديد أحمد عز على المشهد السياسي والاقتصادي، وتحكّم وقتها في سوق الحديد ضمن مجموعة من كبار المحتكرين أصحاب النفوذ السياسي، وخالف وقتها القوانين القائمة، خاصة قانون المنافسة ومنع الاحتكار، ولم يجد عز ساعتها من يردعه؛ لأنه كان الطفل المدلل لدى نظام مبارك الحاكم والرجل الثاني في الحزب الوطني المنحل وأمين التنظيم فيه، بل والمسؤول الأول عن لجنة الخطة والموازنة بالبرلمان.

 

وبسبب قفزات أسعار الحديد الأخيرة تجاوز سعر الطن 12.4 ألف جنيه  مقابل نحو ستة آلاف جنيه قبل أشهر، وما إن يلتقط السوق أنفاسه حتى يجد المستهلك نفسه أمام قرار جديد بزيادة الأسعار من قبل مصانع الحديد، وفي مقدمتها شركات أحمد عز، لدرجة أن السوق قد يشهد زيادات عدة في الأسبوع الواحد.

 

وبحسب الخبير الاقتصادي مصطفى عبد السلام، أدت الزيادات المتواصلة في أسعار الحديد منذ شهر يونيو الماضي إلى حدوث حالة من الركود الشديد داخل سوق العقارات وتعطّل إنشاء آلاف المساكن والمشروعات، بل وتهديد مشروع الإسكان الاجتماعي الذي تتولّاه الدولة لمصلحة الطبقات الفقيرة والمتوسطة.

 

كذلك أدّت قفزات سعر مواد البناء إلى إفلاس آلاف من شركات المقاولات وتعثّرها مالياً وخروجها من السوق، بعد أن عجزت عن تحمّل التكاليف المتواصلة الناتجة عن زيادة أسعار كل مواد البناء، وفي مقدمتها الحديد والإسمنت، والأخطر هنا هو توقف العمل في أكثر من ثُلثي مشروعات الطرق والإسكان، بحسب تقارير رسمية.

 

كذلك أدت الزيادات إلى حدوث ارتفاع في أسعار الوحدات والمشروعات الجديدة بنسب تصل لنحو 20%، وهي نسبة كبيرة، خاصة مع الأعباء الملقاة على كاهل الأسرة المصرية بسبب زيادة معدلات التضخم إلى أرقام قياسية وقيام الحكومة بإجراء زيادات عدة في أسعار الكهرباء والوقود والمياه.

 

تحرّك الحكومة كان من المفروض أن يتم في اتجاهات عدة:

 

الأول: زيادة إنتاج المصانع القائمة وليس خفضه، وملاحقة المصانع التي قامت بخفض إنتاج الحديد في الأشهر الماضية، إما بهدف "تعطيش" السوق أو لتقليص تكلفة الإنتاج الزائدة والناتجة عن زيادة سعر البليت؛ وهو الخام المستخدم في صناعة الحديد عالمياً، أو بسبب قرارات الحكومة الأخيرة المتعلقة برفع سعر الوقود الذي يعد أحد أبرز بنود التكلفة داخل مصانع الحديد، وقبلها تعويم الجنيه.

 

الثاني: مراقبة الحكومة الأسواق وفرض رقابة شديدة على المصانع التي ترفع أسعارها أكثر من مرة وبشكل مبالغ فيه ولا تتناسب مع زيادة تكلفة الإنتاج أو زيادة أسعار البليت عالميًا.

 

الثالث: زيادة المعروض من الحديد في السوق عن طريق فتح الباب أمام التجار لاستيراد الحديد من الخارج، إضافة إلى إلغاء رسوم الإغراق المفروضة، تحديداً على الحديد التركي والصيني والأوكراني، وبهذا ستخلق الحكومة منافسين جدداً للمصانع المحلية، وهذا التنافس سيعيد الاستقرار إلى الأسعار وسيوقف القفزات المحلية، ما ينعكس إيجابًا على سوق مواد البناء.

 

لكن بدلاً من قيام الحكومة بالخطوات الثلاث أصدرت وزارة التجارة والصناعة، أمس، قراراً بتمديد فرض رسوم الإغراق المؤقتة على واردات حديد التسليح من الصين وتركيا وأوكرانيا.

 

بالطبع، جزء من القرار الصادر قد يأتي في إطار المناكفة السياسية بين مصر وتركيا، خاصة أن الحديد التركي كان يلقى رواجاً شديداً داخل السوق المصري قبل قرار فرض رسوم الإغراق ووضع قيود على استيراده، لكن الأخطر في القرار الحكومي هو أن الحكومة تركت السوق نهباً للمحتكرين وتحت سيطرة تجار الحديد، وفي مقدمتهم أحمد عز الباحث عن دور سياسي.

 

ويبقى الحديد طريقًا ممهدًا للاستبداد السياسي وتعميق ازمات المصريين، عبر رد الجميل لاحمد ابوهشيمة داعم اعلام السيسي وممول حملاته وتجميل وجهه القبيح.