السعودية والإخوان.. سر التحول

- ‎فيمقالات

لم يوجه عبد اللطيف آل الشيخ، وزير الشئون الإسلامية السعودية، خطباء المساجد إلى استنكار إهانة رسول الله عبر المنابر الإعلامية والثقافية الرسمية والخاصة في فرنسا وغيرها، ولكنه وجههم لقراءة بيان هيئة كبار العلماء الذي يكفر الإخوان المسلمين ويخرجهم من الملة، ويهدر دماءهم، وكذلك فعل وإن بشكل غير مباشر خطيب المسجد الحرام الذي لا يتبع مباشرة وزارة الأوقاف ولكنه يتبع رئاسة الحرمين الشريفين.

بيان هيئة علماء المملكة ليس الأول فقد سبقه بيان في يونيو 2017 وإن كان أخف حدة، حيث اتهم الإخوان بمخالفة السنة، كما سبقه قرار لوزارة الداخلية السعودية في مارس 2014 بتصنيف جماعة الإخوان كجماعة إرهابية، وبالتالي فإن البيان الجديد (الذي اتخذ شكل فتوى غابت عنها الأسانيد الشرعية المقنعة، بينما تصدرتها الأسانيد السياسية المبررة للحكم الملكي الوراثي البعيد عن الإرادة الشعبية، والمستنكرة للخروج على حكم آل سعود) وإن لم يأت بجديد على المستوى السياسي، إلا أنه بما حمله من طبيعة الفتوى يفتح الباب لإصدار أحكام جائرة بحق العلماء والدعاة المحبوسين حاليا، وخاصة المتهمين أمنيا بالانتماء للإخوان المسلمين.

كما أن بيان هيئة العلماء جاء عقب هزيمة ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وهي الهزيمة التي مثلت صدمة كبرى للنظام السعودي الذي دفع لترامب 450 مليار دولار "ليدافع عن مؤخرته" حسب تعبير ترامب نفسه. وقد تبخرت هذه المليارات التي كان بحاجتها المواطن السعودي، كما يرتعد نظام ابن سلمان كبقية شركاء الشر في المنطقة من عودة الديمقراطيين للحكم بما يحمله ذلك من مخاطر التبشير بالديمقراطية وحقوق الإنسان – حتى وإن كان ذلك في حده الأدنى أو الشكلي – كما يرتعد النظام من احتمالات مطالبة الأمريكان بالإفراج عن الدعاة والنشطاء السعوديين المحبوسين حاليا، بل والمطالبة بمحاكمة محمد بن سلمان نفسه في جريمة مقتل خاشقجي، حيث تعهد جو بايدن خلال حملته الانتخابية بذلك.

وبالتالي، ربما أراد ابن سلمان من خلال البيان الجديد إرسال رسالة للإدارة الأمريكية الجديدة بأنه لن يتساهل في ملف الإخوان تحديدا، وقد بإصدار أحكام عاجلة على الدعاة المعتقلين وفقا لهذه الفتوى الجديدة.
لم تصل العلاقات بين السعودية وجماعة الإخوان من قبل إلى هذا المستوى من التوتر الذي بلغته عقب صدور التصنيف السعودي للإخوان كجماعة إرهابية في مارس 2014، كنوع من الدعم لنظام السيسي الذي دعمته المملكة منذ انقلابه في تموز/ يوليو 2013، واستمرت في رعايته حتى اليوم.

تاريخيا، مرت العلاقة بين الإخوان والسعودية بمراحل من التذبذب، وإن غلب عليها الود والصداقة في العقود الأولى للتأسيس (تأسست جماعة الإخوان عام 1928، بينما تأسست المملكة السعودية الحديثة عام 1932 بما يعني أن الإخوان الأقدم تاريخيا)، وقد بدأت تلك العلاقة بشكل قوي خلال زيارة الإمام حسن البنا إلى السعودية عام 1936 في رحلة حج، حيث كان أحد خطباء الحج، وقد لفت أنظار الجميع في ذلك الوقت ببلاغته، فاستضافه الملك عبد العزيز آل سعود، كما أقام الملك مأدبة غداء لوفد حجيج الإخوان وعلى رأسهم حسن البنا أيضا عام 1946. وكان الملك يستضيف البنا أحيانا، ويوفر الحماية له حين يخشى تعرضه لمكروه، كما حدث عام 1948

كما كان الإخوان يحسنون استقبال الملك عبد العزيز خلال زياراته لمصر، ويخرجون فرق الكشافة لاستقباله، وكان نجله الأمير فيصل (الملك لاحقا) يرتاد دار الإخوان المسلمين للتشاور والتنسيق حول القضية الفلسطينية.

وحين توترت العلاقة بين الإخوان وعبد الناصر عقب حادث المنشية 1954 وكذا في عام 1965 وجد الإخوان في المملكة ملاذا آمنا، وتفانوا من ناحيتهم في مجال التربية والتعليم لأبناء المملكة، وكانوا هم الذين قاموا بوضع المناهج التعليمية وتدريسها، وكان من بينها كتب لحسن البنا وسيد قطب وغيرهما من المفكرين المسلمين. ويذكر في ها الصدد أن السيدة زينب الغزالي كانت هي من طلبت تعليم النساء في المملكة وذلك خلال زيارتها للمفتي العام سنة 1957، وقد بذلك جهدا كبيرا لإقناع المسئولين في المملكة بضرورة ذلك، ولو كان أولئك المسئولون استجابوا مبكرا لكنا رأينا نهضة علمية نسائية سعودية منذ وقت طويل.

لم يعد الإخوان من السعودية إلا بعد تحسن علاقتهم بالرئيس السادات، وظلت علاقتهم بالمملكة جيدة، ولكنها عادت للتوتر بسبب الغزو العراقي للكويت، حيث قام الإخوان بدور الوساطة، بينما كانت السعودية تنتظر منهم دعما كاملا لموقفها وإدانة واضحة للغزو دون القيام بأي أدوار أخرى. وزاد التدهور مع طلب السعودية قوات حماية دولية، حيث انتقد الإخوان وجود هذه القوات على الأرض المقدسة. وزادت الأمور تعقيدا مع ارتفاع شأن تيار الصحوة في المملكة، وكان الكثير من رموزه من الإخوان السعوديين أو التيار السروري القريب من الإخوان.

والغريب أن هذا التيار ليس هو من حرم البنات من التعليم ولا من قيادة السيارات في المملكة، ولكن من فعل ذلك هم شيوخ الوهابية السعودية الذين يستأثرون بمنصب الفتوى ضمن اتفاقهم القديم مع الملك المؤسس (للملك الشئون السياسية، ولآل عبد الوهاب الشئون الدينية).

وجاءت تصريحات الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية أواخر عام 2002 في صحيفة السياسة الكويتية لتصب مزيدا من الزيت على النار في العلاقة مع الإخوان، حيث اتهمهم بأنه سبب الكثير من المشاكل في المملكة. وقد هدأت الأمور قليلا بعد ذلك وتمت استضافة المرشد الراحل مهدي عاكف خلال رحلته للحج في العام 2005، وذهب إليه الأمير محمد بن نايف وكيل وزارة الداخلية حينئذ (ولي العهد لاحقا) لزيارته في مقر إقامته حاملا له تحيات والده.

وظلت الأمور هادئة حتى اندلاع ثورة يناير 2011 وخشية المملكة من وصول رياح الديمقراطية. ورغم أن الرئيس الراحل محمد مرسي حرص كثيرا على طمأنة المملكة وبقية دول الخليج بأن الثورة المصرية هي ثورة محلية وليست للتصدير، كما حرص على أن تكون أولى زياراته الخارجية للمملكة، إلا أن ذلك لم يشفع له، حيث ظلت الدسائس السعودية له والتي بلغت أوجها في تحريض الجيش على الانقلاب ودعمه بعد ذلك، ثم توجت كل ذلك بإصدار قرار بتصنيف جماعة الإخوان كجماعة إرهابية في مارس 2014.
تفسير هذه الانقلاب في العلاقة بين السعودية والإخوان هو رغبة المملكة في تدجين جماعة الإخوان، واعتبارها مجرد تابع للسياسة السعودية، وناطق باسمها، ومروج لمشروعها، وهو ما لم يفعله الإخوان الذين كانوا يتعاملون مع المملكة باعتبارهم أكبر جماعة شعبية سنية، وأنهم أكبر عمرا من مملكة آل سعود، وكانوا يريدون علاقات قائمة على التعاون البناء.

ورغم أن المملكة أكرمت وفادة الإخوان في الخمسينيات والستينيات ووفرت لهم ملاذا آمنا وفرص عمل، إلا أنها لم تفعل ذلك حسبة لله كما تدعي أبواقها، بل لوجود صراعات حادة بينها وبين حكم جمال عبد الناصر في مصر، والذي وصل إلى حد تكفيره من قبل هيئة علماء المملكة ذاتها التي أصدرت فتوى مؤخرا ضد الإخوان. وكانت المملكة تريد استغلال الإخوان كقوة ناعمة في هذا الصراع لصالحها، كما كان الإخوان يريدون الاستفادة من الدعم السعودي في مواجهة نظام ناصر الذي قمعهم وقتل بعضهم وطاردهم، هي إذن منافع متبادلة بين الطرفين في مواجهة خصم واحد وليست تكرما من أحد على أحد. وحين شعر آل سعود بخطر تمدد الإخوان داخل المملكة وخارجها، فإنهم لم يتأخروا لحظة في قمع هذا التمدد بشكل عنيف داخليا بحبس كل الرموز المشكوك في انتمائها للإخوان، وخارجيا بملاحقة الإخوان وبالذات المصريين، وصولا إلى إصدار قرار بتصنيفهم جماعة الإرهابية، وأخيرا بإصدار فتوى تكفرهم وتهدر دماءهم، في إحياء لمنهج التكفير الذي حاربه الإخوان كثيرا، والذي ستعاني منه المملكة ذاتها مجددا بعد أن أطلقته نت عقاله وعلى لسان هيئة كبار علمائها.

لم يكن موقف المملكة تجاه الإخوان يوما موقفا مبدئيا بل نفعيا، ودليل ذلك هو التناقض في موقفها الحالي تجاه فروع الإخوان المختلفة. فبينما تصنف الجماعة في مصر بأنها إرهابية وتصدر فتوى بتكفيرها، فإنها تحتضن قادة يمنيين مصنفون "إخوانا"، كما أنها ظلت على علاقة طيبة بفروع إخوانية من دول أخرى.

وبينما اعتبرت علاقة الإخوان -من قبل- بإيران أحد أسباب موقفها المتشدد تجاههم فإنها – أي المملكة – تستضيف أحزاب ورجال إيران في العراق رسميا على أرضها، ويستقبلهم كبار مسئوليها. وفي الوقت الذي تعيب على الإخوان دعمهم لحماس (وهو أمر طبيعي)، فإنها تتهافت لإقامة علاقات كاملة مع الكيان الصهيوني ضاربة بعرض الحائط كل الفتاوى التي أصدرها علمائها. وفي الوقت الذي لايزال نظامها القانوني قائما على أحكام الشريعة، فإن حكامها يقتلون ويجبرون أهل الدم على التنازل عن حقوقهم، كما أنهم يسارعون في التنصل من هويتهم الإسلامية، فاتحين الأبواب على مصاريعها لكل المنكرات والموبقات دون أن نسمع صوتا لهيئة كبار العلماء!