العقيدة والتنظيم والتربية

- ‎فيمقالات

استعرضت سابقا التنظيمات التي اندثرت في العقود الستة الماضية من تاريخ الحياة السياسية المصرية.

وكانت لكل تلك التنظيمات في الظاهر مقومات بقاء فلم تبق، في حين بقي تنظيم الإخوان أكثر من ثمانين عاما، بلغ بعدها سدة الحكم، عبر شرعية الصندوق الانتخابي. وكمراقب وباحث يمكنني أن أعزو سر بقاء وقوة تنظيم الإخوان إلي العوامل التالية:

أولا: العقيدة السياسية: هي النظرية والقيم العليا والمنهجية التي يعتقد المرء أو الحزب أو الجماعة أنها تحقق حياة أفضل للفرد والمجتمع. وهذه العقيدة عند الإخوان مستمدة من فهمهم للقرآن والسنة، وهي كفاحية حركية، تخطط وتجند وتربي وتحشد وتوجه وتقاوم وتصبر وتحتسب من أجل التغيير والإصلاح.

وتمتاز العقيدة الإسلامية بعدم انحيازها لطبقة ولا لفئة أو عرق أو شعب، بعكس بعض الأديان والأيديولوجيات الأرضية، والقومية والاشتراكية أو الرأسمالية وغيرهم. ولهذا تجد في عضوية الإخوان حيثما كانوا شرائح شتي من كل طبقات وفئات وأعراق الأمة. وقد نجح الإخوان في تجسيد القيم والمبادئ الإسلامية فيما يعود بالنفع علي الفرد والمجتمع. وثمة درجات لهذا النفع، بينها إماطة الأذي بأنواعه عن المجتمع، وأصعبها إنكار المنكر السياسي في مواجهة السلطة الجائرة، مرورا بالتكافل وإغاثة الملهوف، وبناء مؤسسات الرعاية الصحية وتيسير العلم، وانتهاءً بمقاومة الأعداء. ولم ينجح الإخوان في ذلك كله إلا بروح الجماعة والتعاون علي البر والتقوي. ويوقن الإخوان أن التعرض للأذي والابتلاء قرين الإيمان القلبي والحركي بالعقيدة، ومن ثم استفاد التنظيم الإخواني من كثرة الابتلاءات، بأن تخلص أولا بأول من الانتهازيين وطلاب المناصب وأصحاب حظ النفس.

ثانيا: متانة وجاذبية التنظيم: يتميز التنظيم عند الإخوان بقوة جعلته يستعصي علي الانفراط أو الاختراق، ويترابط أفراده وقياداته برباط روحي تزينه أخلاق الإيثار والمروءة والتراحم والتكافل والتضحية. ولعل التنظيم الإخواني أثبت طيلة عمره جاذبية شديدة للشباب علي عكس باقي التنظيمات التي عرفتها مصر. والعجيب أن هذه الجاذبية ظلت فاعلة ومثمرة أثناء عقود حظر التنظيم في حين تعاني كل الأحزاب من فقر شديد في العضوية.

استوحي الشيخ حسن البنا مؤسس الإخوان فكرة التنظيم وعول عليها انطلاقا مما فعله الرسول صلي الله عليه وسلم فيما عرف بالعشيرة، ومنهج المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. وتحولت العشيرة عند الإخوان في البدايات الأولي، لأسباب لوجستية وربما أمنية، إلي “الأسرة” المكونة من نحو ثمانية أعضاء بمن فيهم نقيبهم أي مسئولهم. وتلتقي الأسر الإخوانية أسبوعيا في منزل أحدها علي مائدة القرآن والحديث الشريف والسيرة الحركية والاهتمام بالشأن العام. ويدفع عضو الأسرة اشتراكا شهريا بنسبة سبعة في المائة من دخله. وتأتي الشعبة لتكون المستوي التالي في التنظيم، وتضم مجموع أسر الحي. وتلتقي الشعبة فيما يعرف بالكتيبة مرة شهريا، وتجتمع الكتائب في المخيم أو المعسكر. ويتواصل التلاقي والتثقيف والصلاة في المسجد والكتائب والمخيمات والتفقد والتكافل داخل التنظيم، ولا أظن أن أيا من التنظيمات الحزبية المصرية قد تمتعت بترابط وعاطفة وقوة نظام الأسر الإخوانية.

ثالثا: انتخاب القيادات وتفعيل الشوري: يتم اختيار القيادات بدءا من المرشد ونزولا إلي مستوي مسؤولي الشعب ومجالس الشوري عن طريق الانتخاب المباشر، اللهم إلا في أوقات التضييق الأمني الشديد فكانت العملية تتم بالتمرير. وقد عصمت آليات الانتخاب والشوري التنظيم الإخواني من التفكك أو الانقسام، ولا تعدو الحالات التي خرجت علي الجماعة منذ نشأتها، العشرات من أصل الجسم التنظيمي البالغ مئات الآلاف وربما أكثر. وتصل الشوري وعملية التشاور في كثير من الأحيان إلي مستوي أفراد الأسر الإخوانية، ومن حق أحدث عضو أن يوصل رأيه إلي قيادة الجماعة، ولا غرو فالشوري والتشاور أمر قرآني لا يجوز للمسلم أن يعطله فضلا عن القيادة في أي من مستوياتها سياسية كانت أو غير سياسية. والممارسة السياسية للشوري أو الديمقراطية داخل الإخوان ليست مثالية، فهم في النهاية شريحة ضمن مجتمعاتهم، فيهم نفس الأمراض الاجتماعية والسياسية، والفارق الوحيد هو في انتباه حركة الإخوان إلي ذلك ربما أكثر من غيرهم.

رابعا: التربية والتثقيف السياسي: يتعهد الإخوان من يتوسمون فيهم الاستعداد للانخراط في عضويتهم برعاية واهتمام خاص، وذلك عبر أساليب منتظمة جذابة، وما يكاد الفرد الذي يثبت جدارته يجتاز عدة اختبارات ومواقف، قد لا يكون متنبها إلي أنها أعدت له خصيصا، حتي يجد نفسه عضوا عاملا، ومن ثم تحيطه الحركة ببرامج تثقيفية وتربوية ورياضية يجد فيها نفسه ويشبع حاجاته إلي حب العطاء ونفع الآخرين بل ويشبع هواياته. ولقد ربي التنظيم الإخواني أعضاءه تربية عملية عبر اتحادات الطلاب والنقابات المهنية والعمالية، وعبر الانتحابات البرلمانية والمحلية وانتخابات النوادي الاجتماعية والرياضية. وقد انتبهت الجماعة من لدن مؤسسها الإمام البنا إلي عملية التثقيف والتوعية المجتمعية، ولهذا أسست العديد من دور النشر، وأنشأ الإمام وأدار بنفسه صحيفة الإخوان، وتتابعت الإصدارات الصحفية والتثقيفية كالمجلات والكتب والنشرات، إلي أن مورست علي الحركة عمليات الإقصاء العنفية، والتضييق والحصار الإعلامي، بحيث لم يعد مسموحا لها بإصدار أي مطبوعة دورية منذ عام 1981، ولكن قيادة الإخوان الوسطي وشبابهم نجحوا في ابتكار وسائل عديدة للتثقيف والنفاذ إلي الرأي العام. وقد استثمروا أكثر من غيرهم في السنوات الأخيرة شبكة المعلومات العنكبوتية الدولية.
المصدر: الأهرام اليومى