الفضائيات الأجنبية الناطقة بالعربية

- ‎فيمقالات

في أوائل شهر أبريل من عام ٢٠٠٧، بثت إحدى وكالات الأنباء خبرًا قصيرًا جاء فيه: “وافقت المفوضية الأوروبية على إطلاق خدمة إخبارية باللغة العربية لقناة يورو نيوز”. وأضافت الوكالة: أن القرار سيعلن رسميا في الأسبوع الثاني من الشهر. وذكرت المفوضية الأوروبية، وهي الذراع التنفيذية في الاتحاد الأوروبي، أنها ستخصص ميزانية سنوية قدرها ستة ملايين وستمائة ألف دولار للخدمة العربية. وذكرت الوكالة أن قناة يورو نيوز يشاهدها 140 مليون منزلٍ في أوروبا و16 مليون منزل في الشرق الأوسط وإفريقيا، وتبث بسبع لغات هي الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والبرتغالية والروسية والإسبانية.

ذكّرني هذا الخبر آنذاك بخبرين مماثلين كنت قد توقفت أمامهما في نهاية الثمانيات أو بداية التسعينيات من القرن المنصرم.

– الخبر الأول كان يهم المختصين في عالم الأخبار المتلفزة، ومؤداه أن وكالتي رويتر وأسوشيتد برس قررتا ترجمة خدمتيهما البصريتين إلى العربية. وبالطبع يترتب على ترجمة النصوص المصاحبة للصور التلفزيونية، إغراء المحطات العربية بسرعة نقل النص المترجم المتلفز إلى النشرات مباشرة. وجرت عادات الكسالى من صناع نشرات التلفزيون أن لا يكلف أحدهم نفسه تمحيص المصطلحات المترجمة إلى العربية، ناهيكم عن الإيحاءات السلبية في الصور.

الوكالات الأجنبية كانت ولا تزال تراهن على أن عموم الصحفيين العرب يغلب عليهم الضعف الشديد في اللغات الأجنبية، فضلا عن تواضع مهنية بعضهم، وأن أغلب من قد يجيدون واحدة أو أكثر من اللغات الأجنبية، منسحقون منبطحون أمام ثقافة الآخر الغربي. يضاف إلى ما سبق، أن ظروف عمل الصحفيين العرب الصعبة (غباوات وضغوط الرقابة الحكومية وأصحاب النفوذ)، تجعل أعدادُا منهم غير منتبه إلى كمائن الوكالات الغربية، وما تمرره عبر النص المترجم أو الصور. وحدث ولا حرج عن انتقاء أو إهمال تلك الوكالات أحداثا ووقائع بعينها.

– المرة الثانية التي توقفت فيها أمام خبر مماثل لما بدأت به، كانت إبان بدء “سي إن إن” إطلاق موقعها بالعربية على الإنترنت. وقد كتبت وتحدثت حينها منبها إلى ضرورة انتباه المتلقي وطرحه سؤالا دائما: لماذا يكلف الأمريكيون (وغيرهم) أنفسهم الملايين كي يخاطبوننا بلغتنا؟

لدينا الآن في الأثير العربي الكثير من المحطات الفضائية الأجنبية الناطقة بالعربية. الأمريكيون والفرنسيون والروس والألمان والإنجليز والصينيون يستهدفون رؤوسنا. كلهم يغروننا كي نتهالك على موائدهم الإخبارية المغلفة في ألوان وأشكال زاهية.

يجب أن ننتبه كمتلقين إلى ما وراء الرسائل الأجنبية المعربة، وإلى محتواها الذي لا يخلو من الانحياز والتغريب والعلمنة والعولمة.

إن نقاشًا مهنيًّا طويلًا يثور منذ مدة بين الخائفين من نفوذ هذه الفضائيات، وبين المقتنعين بحصافة ومنعة المتلقي العربي ووعيه الفطري.

لا شك عندي شخصيًّا أن عددًا غير قليل من المتلقين العرب واعون إلى خطورة مكر ودهاء من يناصبونهم العداء الحضاري وينحازون للصهاينة. إن هؤلاء لا يأتي منهم أبدًا إعلام مهني بريء، بل هم على سبيل اليقين يدسون في أحيان كثيرة أو قليلة السم في العسل.

لا فرق عندنا بين المحطات التلفزيونية الأجنبية العديدة الناطقة بالعربية، وبين الإذاعات الموجهة منذ ثلاثينيات القرن الماضي، كالبي بي سي، ثم صوت أمريكا، وراديو كولون، ومونت كارلو، وإذاعة موسكو وإسرائيل بالعربية.. إلخ.

هل انخدع الرأي العام العربي بما ظلت هذه الإذاعات تبثه طيلة عقود، في أحلك ظروف العدوان تلو العدوان؟

حقا كان إعلامنا العربي في مجمله خائبًا ديماجوجيا دعائيًّا مكرسًا للديكتاتوريات، ومع ذلك فقد كانت فطنة شعوبنا أكبر وأوعى من أن تنطلي عليها فنون وحيل الإعلام الإذاعي الغربي الناطق بالعربية.

لقد اعتاد البعض في مصر إبان الستينيات والسبعينيات، أن يحولوا مؤشر الإذاعة أحيانا إلى راديو العدو الإسرائيلي، إما لاقتناص خبر أخفته رقابة الطاغية، أو لالتقاط المزيد من أغنيات أم كلثوم أو عبد الحليم. ويقيني أن أحدا من المصريين لم يقع في الفخ الإخباري الصهيوني الملغم بالشائعات وفنون الحرب النفسية.

إن الجمهور المصري والعربي، في رأيي المتواضع، محصن إلى درجة لا بأس بها ضد هذه الفضائيات الضرار، بفضل رسوخ العقيدة الدينية الإسلامية والمسيحية، والذكاء الفطري.

لعل صناع القرار الغربيين ممن ينفقون أموال بلادهم على الفضائيات الناطقة بالعربية مخدوعون بتجربتهم في محاربة الشيوعية، إبان الحرب الباردة. لقد وظفوا الإذاعات الموجهة إلى أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي السابق وإلى الشعب الياباني بعد ضربه بالقنابل النووية. ولا يدرك أولئك الساسة الغربيون الفرق الكبير بين المتلقي السوفيتي والأوروبي والياباني منزوع الدين، وبين المتلقي العربي المسلم والمسيحي.

إن الإعلام التركي العلماني جرب، زهاء قرن من الزمان، أن يفتح على الأتراك نيران الغرائز عبر الفضائيات الإباحية، فماذا كانت النتيجة؟

الأمة التركية عن بكرة أبيها، اتجهت بأقصى سرعة إلى حضن دينها الإسلامي.

هنيئا لبعض الصحفيين المصريين والعرب ممن يغترفون من ميزانيات المحطات الأجنبية (والمحلية الممولة أجنبيا من تحت الطاولة). حسن الظن في وطنية الكثيرين منهم يدفعني للقول إن احتكاكهم بأجندات الآخر الحضاري، سوف يزيدهم قناعة بأن أعداء أمتهم لا يأتي من ورائهم خير.

المقالات لا تعبر عن رأي بوابة الحرية والعدالة وإنما تعبر فقط عن آراء كاتبيها