المساجد لله وليست للعسكر

- ‎فيمقالات

للمسجد دورٌ عظيمٌ فى حياة المسلمين، قالوا: «لقد نزلت آية: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) [الجن: 18] ولم يكن فى الأرض مسجدٌ إلا المسجد الحرام ومسجد إيليا: بيت المقدس» [ابن كثير، تفسير سورة الجن]؛ دلالة على أهمية وحرمة المساجد، وأنها خالصة لله لا تُدنس بشرك أو ظلم أو نفاق، ومن فعل ذلك يقع تحت طائلة عذاب الله الوارد فى الآية 114 من سورة البقرة؛ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

وخراب المساجد يكون بتعطيل دورها الذى أُسست من أجله، والذى درج عليه المسلمون وتلقوه عن النبىﷺ؛  فهى المدرسة التى تخرج فيها القادة والعلماء، ومنارة إشعاع العلم والنهضة، ومنبع الطهارة، ومشفى المرضى، ومصحة الحيارى، وموئل الفقراء، ومصنع الرجال، ومقر القضاء، وفيها يوثق الزواج، وتنعقد الشورى، وتعقد الرايات، وهى أمارة إيمان المسلم وإخلاص قلبه لله: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ..) [التوبة: 18]، ويقول النبىﷺ: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان»، ومن السبعة الذين يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله: «.. رجلٌ قلبُهُ معلقٌ بالمساجد».
وقد حوصرت مساجدنا –للأسف- منذ عقود؛ لمنعها من أداء دورها الإصلاحى، لكن اشتد هذا الحصار منذ انقلاب العسكر الأخير، حتى كدنا نسمع لها أنينًا كأنين الأحياء، وقد سعوا فى خرابها بشتى السبل، وتجرءوا فى هدم كثير منها، ولا يبقى أمامنا إلا جنب الله، وحث الدعاة الغيورين لتحريرها من هذا الأسر، وإعادتها لما كانت عليه منارة وعى وتثقيف تفسد  «إستراتيجية الجهل» التى ينفذونها الآن فى شعبنا المنكوب.

منذ أول يوم بعد الانقلاب بدأ مخطط هذه الحصار بضم جميع المساجد -وهى تقترب من مائتى ألف- إلى الوزارة، ولا يعنى هذا الضم -كما يتصور البعض- مصلحة المسجد أو راحة رواده، إنما يعنى-فى الحقيقة- تعيين موظفيْن اثنين أو ثلاثة للعمل مخبرين للأمن؛ لمنع أى مصلح من قول  كلمة حق، أو تنفيذ نشاط خدمى فيه مصلحة المجتمع، أو إيواء شباب لتعليمهم وتثقيفهم وحمايتهم من الانحراف. باختصار؛ منع أى أنشطة من شأنها  النفع والتغيير.

وضم المسجد يعنى كذلك؛ منع أى مبادرات أهلية للتكافل ومعاونة  المحتاجين، ضمن خطة الانقلابيين لتجفيف منابع الوقف والعمل الخيرى، ويعنى تنفيذ أوامر غربية بإنهاء دور المساجد فى التأثير على الجماهير  وتشكيل رأى عام يزيد الوعى بمخاطر التبعية، ويعنى تزهيد الشباب فيها، وصرفهم عنها، بعد تسليم منابرها لمشايخ السلطة، أو لرءوس جهال يفتون الناس بغير علم، وهى سياسة خبيثة جعلت الشباب يستهينون بالعمائم جميعًا معتبرين إياهم بوقًا للسلطة رمزًا للنفاق.

أما من يقوم على تنفيذ هذا الحصار فهم ضباط وأفراد وحدات الأمن وليست الوزارة التى تتبعها المساجد، وأوامرهم كالسيف على رقاب مسئولى المساجد، فالمسجد يفتح -فقط- للصلاة، ويغلق فور انتهائها، والويل لمن  يرتقى منبرًا وليس لديه «تصريح أمنى»، أما أصحاب التصاريح فهم أئمة الوزارة أو الأزهر المرضى عنهم، وأعدادهم بالطبع لا تكفى، فيُستكمل الناقص من «السلفيين والمداخلة» ولو كانوا أنصاف متعلمين -حتى لقد صارت «خطبة الجمعة» عذابًا، وأى عذاب؛ أخطاء شرعية ولغوية فادحة، يضاف إليها الملل والاستفزاز من جانب أفراد ليس لهم حظٌ فى علم أو موهبة.

أما الأخطر فى هذه الإجراءات فهو تشكيل مجالس إدارات المساجد الكبرى تحت عين وبصر الأمن، وحل المجالس المنتخبة الممثلة لمجتمعها تمثيلاً حقيقيًّا، وما جره ذلك من توقف مشاريع خيرية وجمعيات ومستشفيات ومحاضن أيتام ومصانع كانت عونًا لذوى الحاجات من الفقراء والزَمْنَى، ومنع أعمال برٍّ كانت علاجًا لظواهر متفشية الآن فى المجتمع وعلى رأسها البطالة والعنوسة.

ولا تقلُّ «الخطبةُ الموحدةُ» خطرًا عما سبق؛ ففضلًا عن أنها دعاية للسلطة حيث تُحَدَدُ موضوعاتها سلفًا بما يخدم رأى النظام فى القضايا الآنية -فإن تحديد موضوع واحد على مستوى القطر يسفِّه دور المسجد؛ فما يقال فى منطقة لا يصلح أن يُقال فى أخرى، وما يستوعبه الحضرى قد لا يستوعبه الريفى أو البدوى، والعكس بالعكس، كما أن لكل منطقة قضاياها وهمومها، والمفترض فى الخطبة أن تشتمل موضوعات الحياة كلها وليس موضوعات السياسة التى يحددها الانقلابيون.

وهذه صرخة لكل الغيورين؛ أن ينظروا الحلول لدفع هذا الخطر الجاثم على بيوت الله، وألا ينتظروا ذهاب النظام حتى تنحلّ هذه العقدة، بل المطلوب إيجاد البدائل الفاعلة، وكف الأذى عن شرعنا، ولا يكون ذلك إلا بجهد واهتمام، وإن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم.