بعد إعلان سحب قواتها من سيناء.. هل دخلت أمريكا مرحلة “الانكفاء”؟

- ‎فيتقارير
Australian soldiers serving with the International Stability Force (ISF) in East Timor wait to board an aircraft to return home, at Komoro airport in Dili December 18, 2012. The Australian-led International Stability Force (ISF) officially ended its mission last month, with UN peacekeepers also closing its mission by year end after handing over full policing duties to East Timor. REUTERS/Lirio Da Fonseca (EAST TIMOR - Tags: POLITICS MILITARY TRANSPORT)

قالت ورقة بحثية حديثة، إن الكشف عن توجهات الإدارة الأمريكية نحو سحب قواتها المشاركة في قوات حفظ السلام الدولية بسيناء في هذا التوقيت، فجَّر كثيرا من التساؤلات حول الأسباب الحقيقية وراء هذه الخطوة؛ وهل تتعلق بتنفيذ «صفقة القرن» التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 28 يناير 2020م، خصوصا بعد الضوء الأخضر الأمريكي لحكومة الاحتلال الإسرائيلي بأن قرار ضم الضفة الغربية للسيادة الإسرائيلية مسألة داخلية؟ أم أن للقرار علاقة بانحسار النفوذ الأمريكي في ضوء التداعيات الطاغية لتفشي وباء كوفيد ــ19 المعروف بكورونا على الاقتصاد الأمريكي الذي يشهد انكماشا غير مسبوق، حتى فقد عشرات الملايين من الأمريكيين وظائفهم خلال شهري مارس وأبريل فقط، واستمرار الوباء عدة شهور أخرى كفيل بتحولات أكثر كارثية على كافة المستويات.

ورصدت الورقة البحثية التي نشرها موقع "الشارع السياسي" وصفحته على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، تحت عنوان «سحب جنودها من سيناء.. هل بدأت مرحلة الانكفاء الأمريكي؟"، ثلاثة تفسيرات لتوجهات الإدارة الأمريكية نحو سحب قواتها المشاركة في قوات حفظ السلام بسيناء.

وتناولت الورقة البحثية أبعاد هذه التوجهات وقراءة الخلفيات التي تقف وراءها وما يمكن أن تنبئ به مستقبلا، في ضوء اليقين التام بأن واشنطن وتل أبيب يسابقان الخطى نحو تكريس بنود صفقة القرن قبل الانتخابات الأمريكية المقبلة، والتي يتوقع أن تفضي إلى إعادة تصميم هرم السلطة في الإدارة الأمريكية بناء على توقعات ترجح فشل الرئيس ترامب والدفع  بالديمقراطيين إلى صدارة الحكم من جديد.

كما يمكن ربط هذه التطورات بالتوجهات الأمريكية الرامية لمواجهة تصاعد النفوذ الصيني في أعقاب تفشي وباء كورونا، والحديث المتواصل حول نظام عالمي جديد تقوده بكين بعد تهاوي المكانة الأمريكية على المستوى الدولي.

وكان موقع The Middle East Eye البريطاني نقل عن مسئولين أمريكيين ــ لم تسمهم ــ في تقرير له الخميس 7 مايو 2020م، أنَّ وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر يقود توجهات أمريكية نحو سحب قواتها المشاركة في قوات حفظ السلام بسيناء، وأن الوزير يعتقد أنَّ جهود الجيش في شمال سيناء ليست أفضل استثمارٍ لموارد الوزارة أو تستحق المخاطر التي يواجهها الجنود المتمركزون هناك.

وبينما قوبلت الخطوة الأمريكية باعتراض (إسرائيلي)، التزمت حكومة رئيس الانقلاب عبد الفتاح السيسي الصمت؛ وهو ما يفسره مراقبون بأن العلاقة بين القاهرة وواشنطن تقوم على الإملاء وتنفيذ الأوامر والتوجهات الأمريكية دون نقاش. لكن على الأرجح فإن الخطوة الأمريكية تمت بتوافق مصري أمريكي في إطار صفقة أكبر؛ لأنه بالتزامن مع إعلان الانسحاب الأمريكي من سيناء، تم الإعلان أيضا في ذات اليوم الخميس 8 مايو عن موافقة الإدارة الأمريكية على صفقة تحديث 43 مروحية هجومية لنظام السيسي بقيمة 2,3 مليار دولار.

وقال مسئول الصفقات العسكرية في الخارجية الأمريكية، ريني كلارك كوبر، إن الصفقة تهدف إلى دعم الحملة المصرية ضد المسلحين في شبه جزيرة سيناء، ولضمان قدرات التنسيق مع الجيش الإسرائيلي. وبناء عليه فإن الانسحاب الأمريكي من قوات حفظ السلام بسيناء لا يعكس توترات مصرية أمريكية بقدر ما يعكس ثقة الإدارة الأمريكية في حجم التعاون والتحالف الوثيق للغاية في عهد السيسي بين النظامين في القاهرة وتل أبيب؛ وهو التحالف الذي لم يعد في حاجة إلى رقابة ورعاية أمريكية لأنه بات أكثر قوة وصلابة وتشابكا في المصالح المشتركة والمآلات الواحدة.

ثلاثة تفسيرات

التفسير الأول: أن هذه الخطوات تمثل انكفاء أمريكيا يعود في معظم أسبابه إلى التداعيات الطاغية لفيروس كورونا على مجمل المشهد الأمريكي، ويفسر مسئولون في البنتاغون لصحيفة The Wall Street Journal بأن التخطيط لسحب قوات هو جزء من مراجعة بهدف خفض التكاليف وإعادة تقييم شاملة للعمليات العسكرية الأمريكية في أنحاء العالم.

ويشهد الاقتصاد الأمريكي تدهورا حادا غير مسبوق منذ عقود طويلة، حيث ارتفعت نسبة البطالة إلى 14.7% في إبريل الماضي، في أعلى مستوى خلال 80 عاما وبمعدل شبيه بركود حقبة الثلاثينيات. وخسر نحو 22 مليون أمريكي وظائفهم خلال شهري مارس وإبريل فقط.

واستدانت الخزانة الأمريكية نحو 4 تريليونات دولار من أجل مواجهة هذه الأزمة المستعصية، وخفض البنك المركزي الأمريكي سعر الفائدة إلى الصفر. وتأكيدا للدخول في مرحلة الانكفاء الأمريكي فإن خطوة سحب القوات الأمريكية من سيناء تزامنت مع انسحاب مماثل لأربع بطاريات لمنظومة صواريخ باتريوت الأمريكية من السعودية، إلى جانب عشرات العسكريين الذين تم إرسالهم في الربع الأخيرة من العام الماضي "2019"م في أعقاب الاعتداءات الحوثية على مصافي النفط السعودية والتي أوقعت خسائر باهظة بقطاع النفظ السعودي.

كما يتزامن ذلك مع مغادرة سربين من المقاتلات الأمريكية للمنطقة في ظل مناقشات قائمة لبحث خفض الوجود البحري الأمريكي في الخليج. وما يعزز هذه الفرضية أيضا أن إدارة ترامب أبدت توجهات مماثلة نحو سحب قواتها من سوريا وأفغانستان وخفضها بالعراق إلى جانب خفض التمويل الأمريكي لبعض مبادرات الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية. وربما لهذه الأسباب عارضت الخارجية الأمريكية خطوة سحب قواتها من سيناء؛ لأنها ترى هذه القوة رمزا للقوة الأمريكية في الشرق الأوسط.

التفسير الثاني: أن التوجهات الأمريكية نحو سحب قواتها المشاركة في قوات حفظ السلام الدولية من سيناء تمثل تعبيرا عن المخاوف من استهداف المسلحين في سيناء لهذه القوات في ظل التصعيد الذي يجري مؤخرا والنشاط الملحوظ للتنظيمات المسلحة التي تستنزف الجيش المصري بشدة بعمليات انتقامية مؤلمة.

ويعزز هذه الفرضية أن الخطوة الأمريكية تأتي في أعقاب وصف مركزين بحثيين، بواشنطن، جهود نظام عبد الفتاح السيسي  في محاربة ما يسمى بالإرهاب بأنها "غير فعالة". ونقل مركزا (The Project on Middle East Democracy و The Center for International Policy)  عن نائب الكونغرس توم مالينوسكي، أحد المنتقدين الرئيسيين لنظام السيسي، قوله إنَّ الجيش المصري "غير كفء تماما ولدرجة كارثية".

ويعزز هذا التفسير تصريحات وزير الدفاع الأمريكي أن نشر هذه القوات لا يستحق التكلفة أو المخاطرة بحياة الجنود في ظل عودة نشاط تنظيم داعش الإرهابي إلى شمال سيناء. ويعزز ذلك أن هذه الخطوة الأمريكية قوبلت بمعارضة من جانب حكومة الاحتلال الإسرائيلي التي تخشى من أن يؤدي الانسحاب الأمريكي إلى انهيار مهمة حفظ السلام في وقت تتصاعد فيه أنشطة تنظيم "ولاية سيناء" الفرع المحلي لتنظيم داعش في المنطقة.

ووفقا لمتحدث باسم جيش الاحتلال، استهدفت سلسلة من التفجيرات المميتة القوات المصرية في الأسابيع الأخيرة، بما في ذلك تفجير عربة للجيش المصري في بئر العبد؛ ما أسفر عن "مقتل 10 عناصر عسكرية مصرية وجرح آخرين".

ووفقا لهذا التفسير فإن التوجهات الأمريكية بحسب قواتها من سيناء إنما تأتي ترجمة للمخاوف من استهداف تنظيم "ولاية سيناء" لهذه القوات كما جرى في 2015م؛ وهو ما أجبر الإدارة الأمريكية وقتها إلى تخفيض قواتها من 700 إلى 400 جندي فقط.

التفسير الثالث: يرى أن عملية الانسحاب الأمريكي لها علاقة وثيقة بترتيبات ما تسمى بصفقة القرن الأمريكية، وأن حكومة الاحتلال بصدد اتخاذ خطوات حدية أهمها الإعلان عن ضم مناطق واسعة بالضفة الغربية وجميع المستوطنات وغور الأردن للسيادة الإسرائيلية، وبالتالي فإن الخطوة الأمريكية هي جزء من هذه الترتيبات التي تسارع كل من واشنطن وتل أبيب إلى تكريسها قبل الانتخابات الأمريكية المرتقبة نهاية العام الجاري والتي يمكن أن تفضي إلى إعادة تصميم هرم السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية وتعيد الديمقراطيين إلى صدارة السلطة من جديد، وهم ليسوا على نفس القدر من الحماسة لهذه الصفقة؛ وبالتالي فإن عدم تمرير ما تبقى من بنودها خلال الشهور المقبلة من فترة حكم ترامب، فإنها على الأرجح لن تتحقق  خلال السنوات المقبلة ولن تحظى بذات الدعم والحماسة الذي تلقاه الآن من إدارة ترامب.

توقعات ونتائج

وانتهت الورقة البحثية إلى أنه يمكن القول إن سحب القوات الأمريكية من عدة مناطق في مصر والسعودية وسوريا وأفغانستان وقبلها في غرب إفريقيا، تمثل توجها أمريكيا تعهد به ترامب أثناء ترشحه للرئاسة، والتي يمكن وصفها بإعادة انتشار لهذه القوات لمواجهة التهديدات الجديدة المتمثلة في الصعود الصيني وتمدد النفوذ الروسي. لكن التداعيات الكارثية الطاغية لتفشي وباء كورونا جعلت لسحب هذه القوات أبعادا أخرى وتفسيرات تذهب معظمها إلى أنها تمثل تعبيرا عن الانكفاء الأمريكي، وانحسار النفوذ؛ فالتداعيات الكارثية الطاغية لتفشي وباء كورونا في الولايات المتحدة  في شقيها الصحي والاقتصادي من شأنها أن تؤثر على انتشار أكبر منظومة عسكرية في العالم متمثلةً  بالقوات الأمريكية سواءً من ناحية النفقات الهائلة التي يتطلبها هذا الانتشار أو من ناحية وجود أعداد من المصابين في صفوفها،. وكانت الخارجية الروسية  أشارت قبل أسابيع أن واشنطن تخفي حقيقة تفشي فيروس كورونا بين القوات الأمريكية، لافتة إلى أن التقارير الروسية تشير إلى انتشار كبير في صفوفها، ما من شأنه أن يجبرها على تقليص أعداد قواتها حول العالم، لمنع انتشار الوباء الذي يفتك بالقوات الأمريكية. أما في شق النفقات المادية التي تحتاجها تلك القوات المنتشرة في كل العالم فيبدو أن الواقع الاقتصادي الحالي للولايات المتحدة لم يعد يسمح ببقاء هذا الانتشار على ما هي عليه.

وتتوقع الورقة البحثية أن تفضي الخطوة الأمريكية إلى زعزعة الوضع الأمني بسيناء  بصورة أكبر مما هي عليه الآن، كما أنها تمثل في بعدها الأمني تعزيزا لموقف الجماعات المسلحة في سيناء وإقرارا بقوتها؛ وهو أمر مفهوم من تصريحات وزير الدفاع الأمريكي، وهو ما سيدفع هذه التنظيمات إلى شن مزيد من الهجمات؛ لأن الانسحاب الأمريكي سيترك المنطقة مكشوفة؛  فهذه القوات رغم أنها تتمركز تحت لافتة قوات حفظ السلام لضبط الحدود والتحركات العسكرية بين مصر و(إسرائيل) إلا أنها في حقيقة الأمر كانت تقوك بأدوار تجسس ورصد على تحركات البدو والمسلحين في سيناء ولها تأثير قوي في ضبط الخط الحدودي، ورصد أماكن المسلحين، والمراقبة الدائمة وتسليم الإحداثيات للجيشين المصري والإسرائيلي؛ للضبط الأمني والتعامل مع أي تصعيد قائم، وفي حال انسحاب القوات الأمريكية فهذه القوة ربما تنهار وتبدأ الدول الأخرى بسحب عناصرها، مما سيخلق قلقاً وتخوفاً كبيرين لدى القاهرة وتل أبيب.

وتتوقع الورقة البحثية كذلك أن يفضي الانكفاء الأمريكي إلى إضعاف جهود تل أبيب التي تلاحق شبكات تهريب السلاح في سيناء للمقاومة الفلسطينية رغم الجهود الحثيثة التي يقوم بها نظام السيسي في هذا الشأن.

لكن أخطر ما ورد بالورقة البحثية أن دخول الولايات المتحدة الأمريكية مرحلة الانكفاء والانحسار في ظل التداعيات الطاغية للوباء على المستويين الصحي والاقتصادي يضع صعوبات بالغة أمام تمرير ما تسمى بصفقة القرن. كما أن هذا الانكفاء الأمريكي كفيل بأن تفقد (إسرائيل) أكبر داعم لها على المستوى الدولي؛ وعلى الأرجح فإن حكومة بنيامين نتنياهو سوف تمضي في خطوات ضم الضفة والمستوطنات وغور الأردن خلال الشهو المقبل قبل الانتخابات الأمريكية، دون اكتراث لردود الفعل الدولية الرافضة والمعارضة للقرار، وهو ما يشعل الصدامات والحروب في المنطقة.

لكن مزيدا من الانهيار الأمريكي سوف يفضي إلى تآكل التفوق السياسي والعسكري الصهيوني، وإعادة تصميم وهندسة المشهد الإقليمي والدولي بما ستفضي إليه نهاية وباء كورونا وإعادة تشكيل التحالفات وموازين القوى من جديد.

لقراءة الورقة البحثية

  https://politicalstreet.org/2020/05/18/%D8%B3%D8%AD%D8%A8-%D8%AC%D9%86%D9%88%D8%AF%D9%87%D8%A7-%D9%85%D9%86-%D8%B3%D9%8A%D9%86%D8%A7%D8%A1-%D9%87%D9%84-%D8%A8%D8%AF%D8%A3%D8%AA-%D9%85%D8%B1%D8%AD%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86/