«جبرُ الخواطرِ».. فريضةُ الوقتِ

- ‎فيمقالات

اليوم زمان (جبر الخواطر)، ورحمة الخلق، وإسداء المعروف إلى مستحقيه، والإحسان إلى القريب والجار والصديق وعموم الناس؛ فى زمن قلّ خيره، وكثر شره، وتولى علينا من صيروا الملايين فقراء معوزين، مرضى عاجزين، وحرموهم ينابيع العطاء وموارد العلاج والنفقة، لا يجدون من يحنو عليهم ويمد إليهم حبال البّر؛ بكفايتهم، ورعايتهم، وتأمينهم من المذلة والخوف.

ويحق لنا أن نقول إنه فريضة الوقت، وجهاد الساعة، بعد تفكك المجتمع وانقسام أفراده، ونشوء ظواهر أخلاقية سيئة أعطت الشيطان الفرصة للعبث فى النفوس حتى صار المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا، والبر نفاقًا، والنفاق عبقرية وذكاء، وحتى شحّت الألسنة التى تدعو إلى الدين وتذكِّر بالله؛ فصار لزامًا على الجميع، وخصوصًا الدعاة، عقد النية على نشر هذه الثقافة؛ ثقافة تطييب الخواطر، والإحسان واللطف، وإدخال السرور على المسلمين، وتلك عبادة المحسنين التى تصل أصحابها بالسماء.. يقول سفيان الثورى: «ما رأيت عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه مثل جبر خاطر أخيه المسلم».

إنك لو نظرت حولك ما افتقدت الفقراء والمساكين والضعفاء والمنكسرين، والمظلومين وأصحاب الظروف والأعذار وأبناء السبيل، فضلاً عن ذوى الابتلاءات والمشكلات.. وهؤلاء وغيرهم بحاجة إلى لسان رطب بالكلمة الطيبة الحانية، وقلب مملوء بالشفقة والرحمة، ونفس بذول منفقة توقن أن ما لله هو خيرٌ وأبقى، فلا تجد المظلوم إلا نصرته، ولا المكلوم إلا عزّته، ولا الذى زل إلا أخذت بيديه، ولا المحتاج إلا أعطته، وهذا هو الدين والبر؛ فإن الله لا يرضى حتى يرضى هؤلاء، وقد قرن نزول رحمته برحمتهم وعونهم، «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى السماء».

ولو نسى الإنسان كل شىء فلن ينسى واحدًا قدم إليه معروفًا، أو أعانه على مصيبة، أو أنقذه من عثرة، كما لا ينسى من أسعده يوم كان حزينًا، ولو بكلمة، ومن أخذ بيده حتى أخرجه من كآبته ووحدته، والأمر يسير على من يسر الله له، وكلُّ ذى نية فى الخير مأجور، ولا أفضل من نية معقودة على إدخال السرور على الآخرين وإجابة المضطر عند شدته، وعونه على كشف ما ألمَّ به من سوء.. فلم ينس كعب بن مالك، أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا ما فعل طلحة يوم أُعلنت براءته؛ قال: «فقام إلىّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحنى وهنأنى، والله ما قام إلىّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة».

ولا يكون المجتمع مسلمًا إلا بهذه الخصيصة، وقد نزلت آيات بينات، لا يُحصى عددها، تحضّ عليها، وتلزم المسلمين بها؛ فقد أمر الله بالتعاون فى هذا الأمر، قال تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2]؛ دليل فرضيته، وقد ترك الوسائل لما يستجد؛ ّ توسعة للعباد، الآخذين والمعطين، والبر باب عظيم من أبواب الدين، يفضى إلى مجتمع آمن، قوى، مترابط، لا يعتريه نقص أو خلل، كما صوره النبى -صلى الله عليه وسلم-: «مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».

انفروا خفافًا وثقالًا؛ لمسح دموع الباكين، ولمنع أنين الموجوعين، أنيروا لهم شموع الأمل فى هذا الظلام البهيم، وأعلموهم أنكم إخوتهم فى الدين، وأن من الإخوة كفالتهم وإذهاب الحزن عنهم وعدم تركهم نهبًا للشيطان وحزبه، وأن تلك وصايا نبينا الكريم، جابر الخواطر، الرءوف الرحيم، الذى قال: «إن من أحب الأعمال إلى الله إدخال السرور على قلب المؤمن، وأن يفرج عنه غمًّا أو يقضى عنه دينًا، أو يطعمه من جوع»، وقال: «ما آمن بى من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم».

وإذا كانت تلك الفضيلة «جبر الخواطر» قد فشت فى السلف وندرت فى الخلف حتى غفلت عنها الأجيال الحالية؛ فإن من الواجب التذكير بها، قولاً وعملاً، وضرب الأمثلة بشواهد واقعية جرت فى أيامنا الراهنة، وهى كثيرة،  لكنها لم تأخذ حظها من الشهرة، ولقد صاحبت قومًا- نصرهم الله- اخترعوا طرقًا لإغناء الفقير وجبر المسكين وستر الأرملة، منها «حملة جبر الخواطر»، «نحن معكم»؛ لدعم من غدر الزمان بهم، «مشروع القَدُوم»، «مشروع قدرة الفول» وغيرهما لعون غير القادرين فى إقامة مشاريع تردهم عن السؤال ومد اليد للآخرين، كما شهدت وقائع عدة لإخوة صدق فيهم قول الله -عز وجل-: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر: 9]، كالذى باع سيارته -رحمه الله- ليسدد دين أخيه، والأخير لا يعلم أنه باع سيارته لأجله، فلما انكشفت غمته أخبره صديق مشترك -فى عرض الكلام- بما قام به أخوه؛ فلم يملك دمعته، وقد لُقّن درسًا عمليًّا فى المروءة والوفاء.

«إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتى، وقطع النهار فى ذكرى، ورحم الأرملة والمسكين وابن السبيل، ورحم المصاب»، حديث قدسى يربط الله -تعالى- فيه قبول الصلاة برحمة الأصناف المذكورة، ممن تعرضوا لتقلبات الزمن، وانكسرت قلوبهم، ينتظرون جابرًا يجبرهم، ومنهم من يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف؛ فلا تردوا راجيًا قصدكم، ولا تغلقوا بابًا فتحه الله، ولا تغفلوا عن واجبكم فى سد الخلل واستكمال النقص.. ولتكن أياديكم سخية معطاءة، ولو بالقليل، واتقوا الشح؛ فإنه أهلك أقوامًا ماتوا من التخمة وحولهم مَنْ يموتون بالمرض والجوع.