حقيقة “الموضوعية” في الإعلام

- ‎فيمقالات

“الموضوعية” لغة اسم مؤنث منسوب إلى «موضوع»، من أوضع، يوضع، وضع، إيضاعًا، فهو موضع. أوضع فلانٌ بين القوم: أفسد بينهم، أوضع الشخص فى الشرِّ: أسرع فيه (ولأَوْضَعُواْ خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) [التوبة: 47].

وفى الاصطلاح: هى الحكم الحيادى الخالى من أى تحيز تجاه فكرة أو نحوها، المجرد من كل غاية شخصية، ويحتكم إلى العقل والحقيقة. وأُطلق اللفظ فى المجال الإعلامى يُقصد به: تخلى الصحفى عن العواطف والانفعالات، والبعد عن الأهواء عند إصدار رأى أو حكم أو قرار؛ من منطلق الحيادية/اللاحزبية؛ باعتبار دوره المؤسسى كسلطة رابعة (رقابية)،   بعيدًا عن الحكومات وجماعات المصالح.

أما عن تحققها فى الواقع الإعلامى، قديمًا وحديثًا، عربيًّا وغربيًّا، فلم يحدث،  ولن يكون، وتبقى رغبة مثالية حتى لدى من يحاولونها أو يدّعون أنهم من أنصارها. وهى -كما وصفها البعض- مثل بعض الصفات الأخلاقية؛ عزيزة ونسبية، وهناك فرق بين ما يجب أن يكون وما هو كائن، ناهيك عن صعوبة قياسها فى ظل التشابك المجتمعى المعاصر.

ولقد أسقط عددٌ من الجمعيات العالمية المهتمة بشئون الصحافة والصحفيين «الموضوعية» من قانون الأخلاق الخاص بها، وأكدوا أنها غير ممكنة؛ لأن للجميع انحيازات، وكلما ازدادت الخبرة ازداد الانحياز، وقالوا باستحالة أن يجسّد الصحفى جميع وجهات نظر المجتمع، كما لا يرضون بأن يجعلوه سلبيًّا مجرد مُسْتَقْبِل للأخبار؛ ما يجعله عاجزًا عن وضع التقارير وتقديم التحليلات. من ثم استبدلوها بما أسموه «الدقة والإنصاف»، وما عداهما فهو «أكذوبة».

وللأسف؛ يحاول بعض إعلاميى الثورة، المحسوبين على تيار الشرعية، مجافاة الواقع والسباحة ضد التيار، فيصرّون على اختراع نظرية جديدة فى الإعلام، كأن نظريات العالم لم تقنعهم؛ ما أوقعهم فى «سقطات» مهنية أفقدتهم الكثير من المتعاطفين.

ويعدُّ اللقاء الذى أجرته قناة (مكملين) مؤخرًا مع «ناشط» سابق خطأ مهنيًّا وحزبيًّا جسيمًا؛ أرجو القائمين على القناة معالجته والاعتبار بنتائجه، وألا يستهينوا بردود فعل الرأى العام الذى يشكل فى النهاية جمهورهم الثورى الذى تم صنعه على مدى سنوات.

فى ظنى فإن قرار استضافة هذا «الناشط» تم بمبادرة حماسية غير محسوبة، لا تقدر معنى الحزبية، كما لا تقدر الحالة الثورية، وجرت وراء فكرة الموضوعية (الغائبة) فوقعت فى خطر التقليد؛ فـ«مكملين» ليست الجزيرة. فالأولى ثورية محلية، والأخرى عامة دولية، والأولى ذات إمكانات فقيرة، والأخرى إمكاناتها إمكانات دولة؛ فلا تذكر قطر فى المحفل العالمى إلا ويسبقها ذكر هذه القناة.. ومع ذلك فـ (موضوعية) الجزيرة منقوصة، والمقام لا يتسع للتفصيل، ولكن نذكِّر أن قناة بكاملها ضمن شبكتها: «مباشر مصر» أُغلقت فى لحظة بقرار سياسى، دون إنذار، ودون أخذ رأى مئات الصحفيين والإعلاميين العاملين بها.

وثانيًا؛ قد تكون تلك الاستضافة من باب تبنى فكرة «الاصطفاف»، خصوصًا أننا على أبواب ذكرى ثورة يناير، وهذا ذنب أفدح؛ إذ فى مثل هذه الإجراءات الائتلافية أو التوافقية يجب أن يسبق السياسى الإعلامى، وأن يتم الاتفاق فى الغرف المغلقة قبل أن يتم تجريبه على الشاشات، وإذا كان العكس قد جرى فهذا يدل على خلل فى المنظومة كلها، وأن كلاًّ يعمل بطريقته وحسب رؤيته.

وما لا يعرفه القائمون على القناة أن هناك فرَقًا بين «الموضوعية» و«المصداقية» والأليق بهم أن يتحلوا بالأخيرة فيكونون موئلاً لمن أراد الحقيقة، لكن لا يليق بهم أن يطعنوا أنفسهم بخنجر الخصوم فى عقر دارهم.. لقد استضافوا هذا الناشط وهم بالتأكيد يعملون أنه -كما جاهر فى «فيديوهاته»-: زان، مدمن للخمر والمخدرات، مضطرب النفس، فاحش القول؛ فآذوا الملايين بهذا الحوار البذىء، وجعلوا الخصم محققًا معهم، مستجوبًا لهم، متهمًا إياهم بتهم زائفة قد تفتن الكثيرين.. غير مقدرين أن الإعلام الثورى برىٌّ غير مستأنس، ولا خاضع، متحمس لفكرته، فى حالة مناوشة دائمة مع خصمه، لا يدع له فرصة للراحة.. وهو مثل المحاكمات الثورية؛ فى غنى عن سماع أدلة الخصم وشهوده، بل هو باتٌّ فى أحكامه..

لقد أعطى «الإخوة الكرام» هذا الشخص الفرصة كاملة لتشويه فكرتهم، أتوا به ولم ينتبهوا إلى المسئولية الملقاة عليهم تجاه ملايين المشاهدين؛ بالقدرة على الفرز، وتوقى الصدمات باستبيان تفاصيل الخريطة السياسية ومقدار التغيرات التى طرأت عليها؛ ما يقتضى أن يكون لهذه المحطة وغيرها من قنوات الشرعية خبراء ومستشارون يُسمع لهم، ويشاركون فى خططها وبرامجها بالرأى والمشورة..

قد كتبت مقالاً منذ سنتين تقريبًا، نبهتُ فيه إلى خطر «دببة الشرعية» وقسمتهم أنواعًا؛ منهم ذلك النوع المخلص -وكلهم مخلصون- مشبوب العاطفة متعصب الرأى، الذى يندفع فى العمل وهو يظنه خيرًا لنفسه ولدعوته -دون أن يستشير أحدًا- فيضيِّع نفسه ودعوته معًا.