شهداء السجون.. مسئولية السيسي ومعارضيه

- ‎فيمقالات

“أعلم أنني قد أكون قادرًا علي البقاء لبضعة أسابيع فقط عندما أضرب عن الطعام، لكنني ليس  لدي خيار آخر ، أفضل أن أتضور جوعا على أن أتعفن ببطء وبصمت هنا في هذا الجحيم” كلمات تخلع القلوب، وتكشف جحيم الحياة في سجون السيسي، قالها أحدث الشهداء مصطفى قاسم الذي لفظ أنفاسه الأخيرة قبل يومين، وأرسلها في رسالة  شرحا لقراره بالإضراب عن الطعام حتى الموت احتجاجا على ما يعانيه داخل السجن من قتل بطيء والذي لن يكون في نهاية المطاف أسوأ من الموت البطيء تعفنا.

لم يكن مصطفى قاسم هو أول شهيد ولن يكون الأخير في سجون السيسي، فقد سبقه وخلال تسعة أيام فقط ثلاثة  آخرون كان اولهم محمود صالح (46 سنة) في سجن العقرب سيء السمعة،يوم 4 يناير، وكان الثاني هو علاء الدين سعد (56سنة) في سجن برج العرب يوم 8 يناير، وفي اليوم ذاته لحقهم المحتجز محمود محمد (37 سنة) بقسم شرطة الأقصر.

ولم يكن هؤلاء الأربعة هم فقط من لقوا حتفهم في السجون بسبب حرمانهم من حقوقهم الطبيعية، وبسبب الإهمال الطبي والقتل البطيء المتعمد، فقد سبقهم المئات (تصل بعض الروايات بهم إلى 850 سجينا منهم السياسي ومنهم الجنائي).

قتل النساء أيضا:
لم يقتصر القتل البطيء على الرجال، فهاهي المعتقلة السياسية  مريم سالم (33 عاما) تلقى حتفها أيضا، بسجن القناطر بسبب الإهمال الطبي المتعمد من إدارة السجن، إذ كانت تعاني من تليف كبدي وارتفاع في نسبة الصفراء، ما أدى إلى حالة استسقاء في البطن، ماتت مريم تاركة خلفها طفلها الوحيد الذي ظل في حضانتها في السجن حتى أتم عامين ، ثم تم فصله عنها وتسليمه لإحدى دور الأيتام بسبب وفاة والده، وعدم وجود عائل آخر، كما بقي جثمان مريم في المشرحة عدة أيام لعدم وجود عائل يستلمه حيث يعيش باقي أفراد العائلة في ظل مطاردة أمنية مستمرة،

حالات الذين لقوا حتفهم بسبب الإهمال الطبي في السجون كثيرة، وهي تدمي القلوب، نشعر حيالها بالعجز، والخجل، صحيح أن هناك جهودا تبذل على المستوى الحقوقي لإنقاذ هؤلاء السجناء، أوعلى الأقل تحسين أوضاعهم داخل السجون وفقا لما تتضمنه لائحة السجون ذاتها، وصحيح أن هذه الجهود أسفرت عن صدور العديد من الإدانات الدولية خاصة من الأمم المتحدة وخبرائها ومقرريها الخواص للنظام المصري، وطالبته بالالتزام بمعايير حقوق الإنسان، وتحدثت بشكل واضح عن الموتى في السجون وعلى رأسهم أول رئيس مدني منتخب لمصر وهو الشهيد الدكتور محمد مرسي، كما نبهت إلى العديد من الحالات التي تتعرض لخطر الموت في السجون بسبب الإهمال الطبي، ولكن الصحيح أيضا أن القوى السياسية التي ينتسب لها هؤلاء الشهداء لم تفعل فيما ينبغي عليها فعله تجاههم، ولا يصح التعلل هنا بأن قمع النظام أكبر من قدرة هذه القوى على الرد والمواجهة ، فهاهم السجناء يتساقطون الواحد تلو الأخر، بينما تعجز هذه القوى عن رص صفوفها الداخلية، وتحسين قدراتها الحركية والسياسية والإدارية، وتحقيق حالة اصطفاف وطنية تستهدف إنقاذ مصر، ولتكن البداية بهؤلاء السجناء الذين يمثلون الآن كل الأطياف، والذين تجمعهم زنازين واحدة، ويتعرضون للموت في  تلك الزنازين المشتركة، وها هي المنافي تضم أيضا رموزا وكوادر عديدة من تلك القوى المتنافرة حتى الآن، لم تحركها عذابات السجون، ولا أنات المنافي لنسيان ماض تعيس ولو مؤقتا ، والاتفاق على هدف بسيط وهو إنقاذ مصر من هذا النظام الذي يتنازل عن تراب الوطن وسيادته وثرواته ومياهه، والذي لا يفرق بين معارضيه بحسب أيديولوجياتهم.

شهادات متفرقة:
مات في السجن مهدي عاكف المرشد السابق لجماعة الإخوان المسلمين، ومات في السجن عصام دربالة رئيس مجلس شورى الجماعة الإسلامية، ومات في السجن الشيخ مرجان سالم، وها هو عبد المنعم أبو الفتوح يتعرض للقتل البطئ، ومعه أيضا العديد من الرموز السياسية مثل هشام جنينة، وعصام سلطان، وعلياء عواد، وأحمد دومة، وحسام مؤنس وهشام فؤاد وكمال خليل، ومجدي أحمد حسين وزوجته نجلاء القليوبي إلخ إلخ، ولم يشفع ذلك لأحزابهم وتياراتهم لوقف تراشقها والاتحاد على الهدف الواحد وهو إنقاذ الوطن.

لا يستطيع مثلي أن ينقل الصورة الكاملة للهلاك داخل السجون المصرية، ولكن ما يصل من شهادات متفرقة من سجون مختلفة يشيب له الولدان، وقد سمعنا عن العديد من محاولات الانتحار بسبب قسوة ظروف الحبس، كما أن السجناء يدخلون في إضرابات عن الطعام بين الحين والآخر يمكن أن تكلفهم حياتهم كما حدث مع قاسم ، وكان أحدث إضراب هو ما تم مؤخرا في سجن العقرب المصنف بالأسوأ بين السجون المصرية، والذي يضم خيرة رجال مصر، شبابا وشيوخا، والذين يستهدف النظام التخلص منهم كما قال أحد مسؤولي ذلك السجن.

لم يكن استشهاد مصطفى قاسم الأول ولن يكون الأخير، ولم تكن حالة الرعب التي انتابت النظام بسبب قتله لكونه مصريا مثل المئات الذين سبقوه، ولكن لأنه يحمل الجنسية الأمريكية، وقد كان جزءا من مطالب أمريكية رفعها ترامب وغيره من المسؤولين للمشير السيسي خلال لقائه بهم في سبتمبر الماضي، كما أنه محل اهتمام حالي من بعض مراكز صنع القرار الأمريكية، وإن كان من الواضح أنه ضغط روتيني، لأن ترامب هو الداعم الأكبر عالميا للسيسي، وهو قادر بكلمة حازمة منه -لو أراد- على إجبار السيسي فورا لإطلاق سراح السجناء وخاصة الأمريكيين منهم، وكان يمكنه إنقاذ حياة قاسم الذي طالبه بالتدخل فعلا، وقد فعلها من قبل حين أصر على إطلاق سراح الحقوقية آية حجازي واستقبلها في مكتبه البيضاوي لأنها تحمل الجنسية الأمريكية، كما نجح سلفه أوباما في إطلاق سراح الناشط محمد سلطان واستقباله في البيت الأبيض أيضا، ورغم “روتينية هذه الضغوط ” إلا أنها سببت إزعاجا كبيرا لنظام السيسي حيث أمر النائب العام بتشريح الجثة لمعرفة سبب الوفاة، كما حاولت وزارة الداخلية تبرئة نفسها من الجريمة، وراحت الأذرع الإعلامية تحمل الشهيد المسؤولية عن قتل نفسه، وكأنه تمرد على رفاهية لم يحتملها في محبسه.

فهل يفعلون؟
ما حك جلدك مثل ظفرك فتولَ انت جميع أمرك، تستطيع المجموعات والكيانات الحقوقية المصرية ترتيب حالة تنسيق عالية بينها فورا لممارسة المزيد من الضغط الدولي على النظام لإطلاق سراح السجناء، ولا وقت على الإطلاق للخلاف أو “النفسنة” بين هذه الكيانات الحقوقية ذات الخلفيات المتنوعة.

وتستطيع القوى السياسية المناهضة للإنقلاب تطوير أدائها السياسي، وترميم بيوتها، وترتيب صفوفها، وتوحيد أو تنسيق جهودها، واستكمال ما ينقصها من مصادر القوة الناعمة لتطوير مقاومتها لهذا النظام الهش الذي يعتاش على ضعفها وتفرقها، فهل يفعلون؟؟

………………………
نقلاً عن “الجزيرة مباشر”