ليتهم كانوا في أخلاق فرعون

- ‎فيمقالات

بلغ بنا الحال أن صار الناس في مصر يتبادلون التهاني بظهور المعتقلين في نيابة أمن الدولة، بعد خطفهم وإخفائهم قسريًا، أسابيع وشهور، وربما سنوات.. للحظةٍ، تخيلت أننا في زمن فرعوني قديم حين طالعت منشورًا يهنئ ويحتفل في سعادة صادقة بظهور المترجمة، مروة عرفة، بمقر نيابة أمن الدولة، بعد أسبوعين كاملين من انقطاع أخبارها، عقب اقتحام منزلها بالقاهرة وانتزاعها من زوج وابنة رضيعة. غير أن دقائق من التفكير انتهت بأننا نظلم الفرعون وزمنه حين ننسب إليه ما نراه حولنا من ممارسات في حواضر الطغيان العربي الحديث.

لو تتبعت سمات شخصية الفرعون في القصص القرآني ستجد طغيانًا أرقى مما يقوم به الطغاة في عصرنا، إذ كان طغيان فرعون يتمتع بحد أدنى من المروءة والرجولة وهو يتجبر على معارضيه، فلم يكن انتقامه ممن خالفوه واتبعوا نبي الله موسى عليه السلام يشمل النساء، حيث كان يحصر خلافه وبطشه بالرجال في دائرة الرجال، ولا ينتقم من الرجل في زوجته أو ابنته، وبحسب السرد القرآني كان يقتل الأبناء ويستحيي النساء، ولم نسمع أنه اعتقل وأخفى قسريًا وعذَّب ونكَّل بأم موسى أو أخته، أو بنساء أحد من أتباعه. كما لم تكن زنازينه مزدحمة بالسيدات والفتيات على هذا النحو الذي تراه في سجون السيسي وبشار الأسد ومحمد بن سلمان.

ومع الوضع في الاعتبار أن تأله الفرعون على شعبه لم يكن غصبًا أو فرضًا على الجماهير، بل كان جزءً من عقيدة الناس وثقافتها الموروثة التي ترى الحاكم هو الإله في ذلك الوقت، فإن فرعون لم يكن يرى في نفسه العارف بكل الأشياء العالم بكل الأمور، فلم يزعم أنه الأكثر فهمًا في الطب والمعمار والاقتصاد، ولم ينقل عنه أنه كان يحدد من يصلح للعمل طبيبًا ومن لا يصلح (مثلًا) ولم يستيقظ ذات صباح ليقرر أن يكون الحطابون صيادلة والصيادلة أطباء، بل كان يحترم التخصص، وكما ورد في القصص فإنه حين دخل الحرب ضد النبي موسى، وهي الحرب التي رآها قائمة على السحر والأشياء الخارقة، أوكل الأمر إلى أهله، وأرسل في المدائن حتى جاء بالسحرة، ليقودوا المعركة، ويحاربوا السحر بالسحر، من وجهة نظره طبعًا.

حتى سحرة فرعون كان لديهم ضمير مهني يحرّكهم ويجعلهم يسلمون بالحقائق من دون مكابرة ويخالفون ما يراه الفرعون، بل ويتحلون بشجاعة اتخاذ موقف وإعلانه، ودفع ثمنه، وقد كان من الممكن (مثلًا) أن يبرروا استسلامهم أمام قدرات موسى التي وهبها الله له بأنه أكثر منهم مهارة وتدريبًا، أو أنه ينفذ مؤامرة لصالح جهات خارجية حاقدة على فرعون وتشن حروب الجيل الرابع أو الخامس.
لم يفعلوا شيئًا من ذلك، بل عرفوا الحق وانحازوا إليه، واستقالوا من خدمة الطغيان الباطل، واختاروا عبادة الله الواحد، خالق الفرعون والبشر.

لم يكن الفرعون يمزج الطغيان بادعاء العبقرية، ويفرض جهله على الجمهور باعتباره منتهى النبوغ، أما الآن، وفي أزهى عصور الطغيان الجهول، لا غرابة أن تسمع اللواء أركان حرب الممثل، شريف منير، يقول إن نسبة قليلة من المصريين ترتدي زي القتال وتحارب في سيناء لكن الشعب المصري كله جيش.
وهذا يساوي بالضبط ما قرره الأستاذ الدكتور المشير الطبيب الفيلسوف، عبد الفتاح السيسي، باعتبار الصيادلة أطباء، وكأن لسان حاله يقول إن نسبة قليلة من المصريين ترتدي المعاطف البيضاء وتحارب ضد الوباء في المستشفيات لكن الشعب المصري كله طب وأطباء.

نحن أمام مشاهد وتصرفات تجعلنا أمام انهيار مرعب في مستوى الاستبداد والطغيان، يمحو فكرتنا الرومانسية الساذجة عن الاستبداد بوصفه متجسدًا في صورة رجل متجهم الملامح ممعن في القسوة مع مخالفيه ومعارضيه، وتضعنا أمام بورتريه مغاير تمامًا للاستبداد، على هيئة صبي أفسده الدلال والتصفيق، بعد أن وجد نفسه فجأة فوق مقعد مخصص للكبار بيده كل السلطات متمتعًا بنفوذ متغطرس وشرير على الجميع، صغارًا وكبارًا، يمارس به الانتقام العنيف من أي شخص يلمح في عينيه سخرية من أدائه الهزيل أو من الظروف والملابسات التي جعلت منه سلطانًا ينتمي إلى العصور الوسطى، أو ينطق بكلمة نقد أو رفض له.

هذا النوع الخفيض من الاستبداد المنقوع في السادية هو الذي قتل الشاب شادي حبش في محبسه، كما قتل مئات من نوابغ مصر الحقيقيين بالطريقة ذاتها، محرومين من العلاج في السجون.