متى تنتهي سياسة الخداع الاقتصادي في مصر؟!

- ‎فيمقالات

يشهد الواقع الاقتصادي المصري إدمانا للخديعة في البيانات الاقتصادية، وهذه الخديعة موجهة بفعل فاعل، هي الحكومة، مستخدمة في تزيينها في أذهان الناس وسائل الإعلام الموجهة، معتمدة على الذاكرة التي تعرف النسيان.

فالناظر إلى واقع البيانات الاقتصادية المنشورة وواقع الحال في حياة الناس يجد انفصاما لا يمكن أن يتلاقى. فالبيانات في واد وواقع الناس في واد آخر.. البيانات وردية وواقع الناس مر يكسوه الفقر والجوع والمرض لغالبية الشعب، رغم ما حبا الله مصر من موارد بشرية قلّ نظيرها وموارد طبيعية لا نظير مثلها.

ولعل تصريحات رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي خلال لقاء مع عدد من رؤساء تحرير الصحف الخاصة والقومية؛ تعكس بوضوح ما تعانيه مصر من الخديعة والتزييف، في بلد تنقصه الشفافية والإفصاح والنزاهة، ولا مكان فيه لحساب مسؤول محسوب على النظام.

فرئيس الوزراء يقول: “الاقتراض للأكل والشرب لا يصنع دولة”، وهي كلمات حق يراد بها باطل، في واقع تقترض فيه الدولة من أجل ترقيع الديون، فصارت التنمية الموهومة في خدمة القروض المنظورة، تلك القروض التي أصاب مقترضيها الحول التنموي بعيدا عن تحقيق قيمة مضافة حقيقية، وما مشروع تفريعة قناة السويس والعاصمة الجديدة والزيادة الشكلية للاحتياطي من النقد الأجنبي؛ عنا ببعيد!!

ثم يستمر رئيس الوزراء في خديعته فيقول: “الإصلاح الاقتصادي مصري 100 في المئة”، وهو يعلم علم اليقين أن برنامج الإصلاح الاقتصادي وإن كانت تضعه الحكومة، ولكن الموافقة عليه من صلاحيات صندوق النقد الدولي وحده، وهو الذي يعدل ويغير البرنامج وفقا لـ”روشتته”، ومن ثم فهذا الكلام لا يستقيم ولا يساوي الحبر الذي كتب به، لا سيما والقاصي والداني يعرف أن تعويم الجنيه المصري وزيادة الضرائب ورفع الدعم والتوجه نحو تخفيض العمالة؛ هي متطلبات الصندوق التي رضخت لها الحكومة دون أي مقاومة تذكر من أجل قرض الـ12 مليار دولار، والذي لم يُعرف له أثر، ومعه غابت الحماية الاجتماعية، وارتفعت نسبة الفقر لتصل في بعض المحافظات، لا سيما في الصعيد، إلى نحو 70 في المئة، والتهبت ظهور الناس بالتضخم الذي يتباهى رئيس الوزراء بأنه انخفض إلى 2.5 في المئة، وكأننا في دول الاتحاد الأوروبي، وهو على عكس الواقع الذي يشهده الناس في متطلباتهم اليومية من السلع والخدمات من الارتفاع المستمر للأسعار.

بل إن مدبولي يتمادى ويقول: “إن برنامج الإصلاح الاقتصادي المصري هو الوحيد الذى نجح على مستوى العالم. فهناك دول أخرى بدأت نفس البرامج، ولكنها انحرفت عن المسار ولم تستطع استكماله. ويرجع نجاح برنامج الإصلاح الاقتصادي المصري لثقة الشعب المصري في عبد الفتاح السيسي”.. وهذا كلام مفضوح، فكيف يرتبط نجاح برنامج اقتصادي في بلد بشخص حوّل حياة الناس إلى جحيم وكبت وفقر مما زاد من نسبة الانتحار؟!

ثم إن الاعتراف بأن البرنامج المصري الوحيد الناجح عالميا يعكس أن تجارب الصندوق كلها فاشلة، وإذا كانت كذلك فليس البرنامج المصري سوى حلقة في سلسلة فشل ذريع، لا سيما وأن تجارب الصندوق قائمة على التوريط بالدخول في حلقة مفرغة من الديون والفقر لا مفر من الخروج منها إلا بترك “روشتته” والبعد عن سياسته.

ويضيف رئيس الوزراء المصري قائلا: “الدولة لا تبيع مصانعها ولكن تعمل على إعادة هيكلتها وتطويرها.. ونتائج الإصلاح الاقتصادي بدأت في الظهور من خلال انخفاض معدلات البطالة إلى 8.7 في المئة بعد أن كانت 13 في المئة، وخلق ملايين من فرص العمل”.. والواقع يكشف أن النظام المصري أسس صندوقا سياديا لا رقابة عليه مهمته بيع أصول الدولة، وفي مقدمتها شركات قطاع الأعمال العام. وبرنامج بيعها معلن، وليس ما حصل لشركة الشرقية للدخان الرابحة عنا ببعيد!

وكيف تنخفض البطالة ومن الشروط الأساسية للبيع أو الهيكلة التخلص من جزء كبير من العمالة؟؟ بل كيف تنخفض البطالة وآلاف المصانع من القطاع الخاص عرفت طريقها للإغلاق في ظل عدم القدرة على منافسة مشروعات العسكر الاقتصادية؟! بل إن مدبولي يدعي في حواره حرصه على دعوة القطاع الخاص للمشاركة مع الدولة في إدارة المشروعات، مؤكدا أن الدولة لا تزاحم القطاع الخاص.

وبرر ذلك بأنه مطلوب منه توفير ما بين 750 ألف إلى مليون فرصة عمل، والقطاع الخاص لا يستطيع توفير هذه الفرص”.. وهذا كلام يحمل معه معول هدمه في ظل عدم تعيين أي عامل بالحكومة إلا بموافقة السيسي نفسه، ومبدأ المزاحمة الاقتصادية الذي من خلاله تطرد مشروعات العسكر الاقتصادية القطاع الخاص من السوق لاستحالة المنافسة بينهما. كما أن المؤشرات الحقيقية تكشف عن الوضع المتردي للقطاع الخاص، فجاءت مصر في المرتبة 114 من 190 دولة في مؤشر سهولة ممارسة الأعمال للعام 2020م، وفي المرتبة 93 من 141 دولة في مؤشر التنافسية العالمية للعام 2019م.

ثم يتفاخر مدبولي كذلك في حواره بأنه “من نتائج الإصلاح الاقتصادي أنه أصبح لدينا فائض في الموازنة سيوجه للمواطن المصري. فعلى سبيل المثال، كان هناك 100 مليار جنيه موجه للاستثمارات تمت زيادتها لـ140 مليار جنيه، ثم 160 مليار جنيه، مستهدفين زيادتها لـ200 مليار جنيه، سيوجه منها ما يقرب من 60 مليار جنيه للمحافظات الأكثر احتياجا”. ونسي أو تناسي مدبولي وكذلك وزير ماليته أن الفائض الذي يتغنون به ويقدر بـ1.9 مليار جنيه هو فائض أولي بعد استبعاد فوائد الديون التي تزيد عن ثلث مصروفات الموازنة، ومن ثم فإنه فائض وهمي على الورق. كما أن هذا الفائض تحمل تبعاته المواطن زيادة في الضرائب وتخفيضا للدعم، فهو نتاج الفرق بين إيرادات الموازنة ومصروفاتها بعد استبعاد فوائد الديون.

ولعل الخديعة الكبرى التي غذتها الحكومة؛ ما أعلنته عن تحويل مصر لمركز إقليمي للغاز، مبررة استيراد الغاز من الكيان الصهيوني (بأكثر من سعره السوقي) من أجل ذلك، رغم التفاخر بوجود حقول ضخمة في مقدمتها حقل ظهر، ثم اكتشف الجميع هذا السراب من خلال إعلان حساب إسرائيل بالعربية على تويتر أن الغاز المصدر لمصر مخصص للاستخدام في السوق المحلي المصري، ثم ألحق ذلك تصريح رئيس وزراء الكيان الصهيوني نتنياهو بإبرام الاتفاق اليوناني القبرصي الإسرائيلي لمد خطوط غاز الكيان الصهيوني لأوروبا، ليصبح الكيان الصهيوني هو المركز الإقليمي لتصدير الغاز لأوروبا بديلا عن مصر وحليفه السيسي.

إن الخديعة في البيانات والمعلومات التي تمتهنها الحكومة لا تنطلي على أحد، والكذب مهما كثر إدمانه فلا بد من انكشافه، واقتصاد البيانات المزيفة لن يكتب له الاستمرار.

نقلاً عن “عربي21”