ما بعد ضرب “الشعيرات”.. رسائل للداخل والخارج

- ‎فيعربي ودولي

كتب محمد مصباح:

مثلت الضربة الجوية التي وجهتها واشنطن لقاعدة الشعيرات الجوية في حمص فجر اليوم الجمعة، بداية لتغير واضح في قواعد اللعبة العسكرية في المنطقة، وخاصة في المشرق العربي.

وحسب مراقبين فإن الآتي قد يكون أعظم. ليس المقصود تغييرًا في الميزان العسكري طبعًا، من دون التقليل من أهمية الشعيرات كمنصة هي أكبر من مطار عسكري لانطلاق حاملات الموت على المناطق السورية الخارجة عن سيطرة النظام.

التغيير الذي ربما تمهد له الضربة المحدودة بـ59 صاروخ "توماهوك"، هو سياسي لا بد أن يترك أثرًا عسكريًا سيكون حاسمًا في تحديد وجهة وشكل إنهاء الملف السوري يومًا ما.

أراد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، توجيه رسالة للروس مفادها أن زمن باراك أوباما قد تغير، ليصبح الطلب الأمريكي لروسيا بإخلاء القاعدة المخطط استهدافها في حمص، بمثابة جرس إنذار أمريكي لروسيا لا يحتمل تلاعبًا على الكلام: وأن دعمكم لنظام بشار الأسد سيتسبب لكم بمشاكل كبيرة معنا، فادرسوا وقف رعايتكم المقدسة له.

ويمكن أن تكون للرسالة تتمّة؛ اليوم أمكن تفادي إصابة أهداف روسية في قصف قاعدة الشعيرات، لكن ربما لا يحصل ذلك في المرات المقبلة، خصوصًا في حال لم يفهم النظام السوري الرسالة، أو في حال لم توصل موسكو لحكام دمشق وطهران عناوين واضحة للمرحلة المقبلة: زمن باراك أوباما في سياسة "دع روسيا تفعل ما تشاء لعلّها تغرق في المستنقع السوري"، قد ولّى بالفعل.

كان ترامب في حاجة ليقول أنا الرئيس في السياسة الخارجية على الأقل، بعدما عجز لمرتين عن فرض قراراته في الداخل، من بوابة تنفيذ حظر دخول رعايا دول يعتبرها مصدرًا محتملًا لإرهابيين. فيما يرى محللون أن نظام الأسد دخل في طور انتحاري تعمّقه الأوامر الإيرانية خصوصًا.

من هنا، لا يُتوقع أن يكون للضربة المحدودة على الشعيرات أثر سريع في إقناعه بالموافقة على تسليم السلطة لهيئة حكم انتقالية، حسب الدعوة السريعة التي وصلت من وزير الخارجية التركية، مولود جاووش أوغلو، صبيحة الغارات، وهو ما يفتح، على الأرجح، احتمالات تصعيد أمريكي إضافي ألزم ترامب نفسه به بمجرد أنه أمر بتنفيذ غارات حمص فجر السابع من إبريل، لأن التراجع سيعتبر نقيصة عند رئيس أمريكي يقوم جزء كبير من مشروعيته على ذكورية "أنا رجل وأنفذ ما أتعهد به".

الضربة الأمريكية العسكرية الأولى منفصلة عن التصور الشامل الذي طلب ترامب من وزاراته وأجهزته تقديمه إليه حول سوريا، فهي مجرد ضربة-إنذار ربما تليها خطوات لا تتوقف التسريبات الأمريكية حولها، من نوع تحييد المطارات العسكرية للنظام، وصولًا إلى فرض حظر جوي فوق سوريا، مرورًا بإعادة منح الثقة للفصائل السورية المسلحة التي لا يجمعها مع تنظيمي "داعش" و"النصرة" سوى العداء والحرب، انتهاءً ربما بإقامة مناطق آمنة من الإرهابَيْن الداعشي والأسدي معًا.

وقبل يومين فقط كانت الإدارة قد أعلنت، بلسان البيت الأبيض ووزير الخارجية والسفيرة الأمريكية في الأمم المتحدة؛ أنها ليست معنية بأمر الرئيس الأسد وأنها تترك للشعب السوري تقرير مصيره.. وجاء هذا الكلام على خلفية موقف سابق للرئيس منذ ما قبل الانتخابات، حذر فيه إدارة أوباما من أي تدخل في سوريا.

يبدل الرئيس ترامب فجأة خطابه ليقول خلال مؤتمره الصحفي مع العاهل الأردني في البيت الأبيض، أول أمس الأربعاء، بأن موقفه بعد ضربة الكيمياوي قد "تغير من سوريا والرئيس الأسد"، وأنه لن يفصح عما في جعبته في هذا الخصوص. ثم صعّد اليوم نبرته لتبدو أشبه بالإنذار، حين قال في طريقه إلى ولاية فلوريدا للقاء الرئيس الصيني، بأن "شيئًا ما يجب أن يحصل"، وبدا من كلامه أنه قرر القيام بضربة عسكرية ضد سوريا. أعقب ذلك تلميحات شبه ناطقة من البنتاغون، بأن الضربة باتت مسألة وقت فقط، وجرى تسويق القرار من زاوية أنه جاء بتأثير صور الفاجعة الكيماوية، لكنها ليست الصور لوحدها، هناك حسابات أبعد وموسكو ليست بعيدة عنها.

عزز سكوت موسكو حتى وقت متأخر من الليل، الاعتقاد بأنها كانت على علم بالعملية، من أجل تجنب سقوط ضحايا روس، ولو أن الوزير تيلرسون نفى ذلك، وكانت تسريبات قد لمحت قبل ساعات من بدء العملية بأن الروس "مستاءون من الأسد" وأنهم "عرفوا بالعملية وربما تفهموا الوضع لناحية أن هناك مشكلة الكيمياوي وعليهم التعامل معها".

من هذا المنطلق بدا أن التفاهم معهم جرى على أساس أن تكون الضربة محدودة، تقتصر على استهداف منشآت ومخازن وليس مدرجات القاعدة التي انطلقت منها الطائرات لقصف خان شيخون، وبما يجعلها "عقابية ورادعة" وحيث تكون رمزية لا تغييرية.

ووفر"الكيمياوي" فرصة سانحة للرئيس ترامب تبرر انقلابه على موقفه وتمكنه من ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، قراره بقصف القاعدة السورية ساعده على تجديد صورته في الداخل بأنه "رجل الفعل"، كما وعد في حملته الانتخابية وبما يخدمه في حجب مسلسل التعثر الذي رافقه منذ بدء رئاسته ولو مؤقتًا.

كذلك حمل قراره رسائل إلى عدة أطراف: سورية، إيران وكوريا الشمالية، خلاصتها أن ترامب غير أوباما عندما تأتي لحظة الخيار العسكري. والأهم، أن ضربته وضعت ملف التدخل الروسي في الانتخابات وملابساته وتحقيقاته على الرف وإلى حين. خاصة إذا ما تفاعلت الضربة ونجم عنها تطورات ومواجهات جديدة. فالاشتباك العسكري في الخارج تبقى سيرته طاغية على ما عداه.

وربما كان ذلك أحد أبرز أسباب الاستدارة الحادة التي قام بها الرئيس ترامب بقراره العسكري في سورية. وهنا يتلاقى الموقفان الأمريكي والروسي، كلاهما يريد تغييب سيرة هذه القضية ولو أنه من الصعب شطبها من قائمة الاهتمامات في واشنطن.

تغيرات مستقبلية
الضربة في الاعتقاد السائد ليست من العيار الذي يؤدي إلى تغيير الوضع السياسي ولا الميداني في سوريا، والأرجح حسب كثير من المراقبين أنها لن تحمل النظام السوري على تغيير حساباته، بل قد يرد هو أو إيران على الضربة، بصورة ما في مكان ما من المنطقة، إلا إذا حال الروس دون ذلك.. وهذا غير مضمون، الأمر الذي يبقي الباب مفتوحًا على سائر الاحتمالات، خاصة لجهة التأثير غير المستبعد لهذا التطور على معركة الرقة الموعودة.