كيف يحكم الطغاة؟ وكيف تكون نهاية الشعوب على أيديهم؟

- ‎فيحريات

الحاكم في بلادنا، حينما يتولى السلطة، يذبح شعبه ويقيم لهم المجازر ويقذفهم بالقنابل، ويصل إلى ذروة جبروته فيصرخ: “عاش أنا ويموت ضحاياي، ويكتبها خلسة على جدران المراحيض العمومية في زوايا مملكته البائسة، ويطربه سماعها من أفواه الجوعى والمتسكعين والمشلولين والمتسولين على درجات سلم القصر الرئاسي، لكن قبل أن يرتكب هذا الحاكم الدموي كل هذا العنف ويصل إلى ذلك الجبروت والتسلط والاستبداد، كيف يخدع الحاكم شعبه، ليتسلق السلطة فوق أكتافهم وهم يهتفون بحياته؟ وما الحيل النفسية والتكتيكات التي يستخدمها المستبد لإطالة حكمه، وإخضاع شعبه وإرهابهم، ليركع له الجميع راغبين أو مضطرين أو مجبورين؟.

يقول عبد الرحمن الكواكبي في كتابه المشهور “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” عن الاستبداد: “هو غرور المرء برأيه والأنفة من قبول النصيحة، أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة”، أما على الصعيد السياسي “فالمستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته، ويحاكمهم بهواه لا بشريعتهم”، كما يقول إن الاستبداد “هو تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بلا خوف تبعة”، وإنه “صفة للحكومة المطلقة العنان التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين”.

الطغيان والاستبداد

الطغيان هو أعلى درجات الاستبداد وأشدها بطشا ومباشرة وفجاجة، “فالاستبداد هو تفرط وتسلط، أما الطغيان فيقوم على سلب السلطة بالقوة، والبغي والظلم والفساد بما يجاوز الحد ويصل إلى مجاورة الكفر”.

ويتضح الفرق بين حكم مبارك في مصر وحكم السيسي، بين الاستبداد والطغيان إلى أن “الاستبداد يكمم الأفواه، ويقمع المعارضة، إلا أنه يرتضي من الناس الصمت. حتى لو دمر خصومه، أو سجنهم، إلا أن همه الأول يبقى مركزا على الحفاظ على زمام السلطة. وبعيدا عن منازعته سلطته يترك الناس يفعلون ما يشاؤون، أو هو يترك الناس يقولون ما يشاؤون على أن يفعل هو ما يشاء في ممارسته للسلطة”.

فلو كان للاستبداد خطوطه الحمراء التي لا يسمح بتجاوزها فإن الطغيان “هو نقيض هذه اللعبة. إنه السلطة المحضة، ليس على مستوى الحكم والسياسة وحدهما، بل على مستوى المجتمع ذاته. الطاغية باختصار يفترس المجتمع بما فيه من مؤسسات وهيئات وناس. إنه يلتهم الجميع ولا يقبل أن يترك شيئا خارجه. قوته وسطوته تتغذى من عملية الالتهام المستمرة هذه حتى ليصبح هو البلد والبلد هو. فلا يترك الطغيان أصلا شأنا خاصا للناس، فهو مختص بشؤونهم جميعا يفعل بها ما يشاء، وعليهم أن يتقبلوا مشيئته قانونا لوجودهم، فلا يختلون بشأن من شؤونهم”.

في مقابلة مع محطة فوكس نيوز، قال ترامب عند سؤاله عن بشار الأسد: “إن بوتين يدعم شخصا شريرا بحق، أظنه سيئا جدا سواء بالنسبة لروسيا، أو للبشرية، والعالم أجمع”، وأضاف: “عندما تُلقي غازا أو قنابل أو براميل متفجرة، أن تُلقي تلك البراميل الضخمة المعبأة بالديناميت وسط مجموعة من الناس ثم تجد الأطفال بدون أذرع أو أرجل أو أوجه فهذا -بكل إنصاف- هذا حيوان”.

فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي تتجاوز نزوة السيطرة لديه الحاجة إلى التحكم، وتتحول إلى نزوة السطوة وهي أول عنصر في عناصر نفسية الطغيان.

فهي نزوة سابقة على الشفقة والسادية معا، كما أنها قد تكون مستقلة عن الجنسية”، فلا يُدخل المستبد الناس في حسابه إلا كأدوات لخدمة تعزيز سطوته وبسط نفوذه. “هؤلاء هم الحاشية التي تزين له عظمته، وأدوات القمع البوليسي والمخابراتي التي تعزز له قوته وتحكمه، وحلفاؤه الذين يعززون له نفوذه. وأما الناس العقبة فهم كل المعارضين والمشككين والناقدين لسطوته المنفلتة من أي قيود. وحيث إن إنسانيتهم لا تدخل بالحسبان، فإن الحرب عليهم تكون بلا هوادة ولاحدود: الإبادة، الاعتقال.. أما الناس العبء فهم تلك الكتل المعتبرة الزائدة عن الحاجة، أو التي لا لزوم لها، وبالتالي لا اعتراف لكيانها وحقوقها، ولا موقف تجاهها سوى الإهمال والإقصاء، والترك لمصيرها المحروم من فرص الوجود”.

فالجبابرة والطغاة ما هم إلا أطفال ضخمة بماضٍ من الحرمان والأذى النفسي، قد تحول مع الوقت إلى انفلات وجنون عظمة، وإشباع لا نهائي للرغبات، “فهذا الأنا المثالي المنفلت من كل قانون، لا شيء عنده يتكافأ مع عظمته وقيمته المطلقة، وبالتالي لا شيء يمكن أن يقف في سبيل تلك العظمة أو يضع حدا لها”، بل على العكس لا قيمة للناس إلا بمقدار خدمة هذه الحالة الذاتية ورسوخ سطوتها، “فيصبح إلغاء الآخرين إمكانية بديهية لا تردد إزاءها إذا تهددت هذه الصورة المضخمة والممثلة، وعندها يصبح باب التصفيات والهتك والفتك بالناس والخصوم مفتوحا على مصراعيه”.

آليات السلطة والسيطرة

يتعامل المستبد مع شعبه كأنهم قطيع من الحيوانات التي يجب ترويضها وضبط أجسادها، “حيث يتكون سلوك غريزي يؤدي خلاله الشخص الحركات والتصرفات والمهام المطلوبة منه”، وهذا يتطلب تجاوز السلوك الظاهري وصولا إلى تشكيل الإدراك والأفكار والقناعات والعواطف.

ويقدم عالم النفس بافلوف نظريته في الاقتران الشرطي، والتي عرفت استخدامات واسعة جدا في ترويض الجماهير، وغسيل الأدمغة، والحرب النفسية، والإعلانات، حيث يتعلم الكلب في تجربة بافلوف الكلاسيكية أن يستجيب لمثيرات محايدة في الأصل مثل الضوء أو صوت الجرس بالاستجابة نفسها لمثيرات طبيعية مثل الطعام أو الصدمة الكهربائية.

فيقرن بافلوف بين المثيرات المحايدة والمثيرات الطبيعية، فمثلا يقدم الطعام للكلب مع إشعال الضوء، فيسيل لعاب الكلب مع الوقت مع إشعال الضوء وحده، وإذا اقترن صوت جرس كهربائي بصدمة كهربائية على ساق الكلب في المختبر، فإنه سيتعلم الاستجابة لصوت الجرس باستجابة الاضطراب نفسه الذي يميز الصدمة. هكذا إذا كنت تنوي أن تصبح حاكما، فما عليك إلا إقامة حفلات التعذيب والصعق الكهربائي إذا اعترض أحدهم، حتى يتذكرون جميعا ما قاله جورج أورويل إن “جريمة الفكر لا تفضي إلى الموت، إنها الموت نفسه”.

هكذا يؤسس المستبد لهيبته ورهبته، حيث يعرض ميشيل فوكو في كتابه “المراقبة والمعاقبة” عرضا مفصلا عن العقوبات الرهيبة التي ينزلها المستبد بالجناة، “إنها ليست مجرد تأديب، أو حتى قتل، بل تفنن بالترويع الذي تشيب له الولدان، وحين يصبح الترويع حتميا لا راد له أو مفر منه، إذا وقع إنسان فيما يعتبر خطيئة تعد تطاولا أو تهديدا لسلطة المستبد يتم الردع والتهديد في الحال”.

لكن يبدو أن هذا لا يكفي لإشاعة حالة “إيقاف التفكير” والاقتراب من حالة “انعدام رد الفعل” والقلق العام الشديد، لذلك سيسلط الطاغية منظومة الاستبداد الحكومية وشبكاتها المجتمعية في إذلال الناس، لخلق حالة عامة من القهر والعجز الشديد، سيتعلم خلالها الإنسان أنه مقهور لا حول له ولا قوة، لا يملك حياته ولا مستقبله ولا رزقه، يقف في طوابير لانتظار كل شيء من رغيف الخبز لقضاء مصلحة، لا يجد ماء ولا دواء إلا بشق الأنفس، حيث كل شيء بيد الحاكم، فيذعن الناس طلبا للرزق والسلامة، ويتولد داخلهم سلطة ردع تنهاهم عن أي فعل قد يتعرضون بسببه لنتيجة مؤلمة.

التحكم الناعم بالبشر

برغم فاعلية العنف والتهديد والترهيب فإن الوجه العنيف للترويض لا يمكنه ضمان سطوة المستبد واستتبابها، فلا بد له من وجه آخر مكمل يتمثل في الترغيب الذي يوازنه، “فالطاغية ذاته لا يمكنه الاكتفاء بفرض آلة الردع التي تؤدي إلى الاستسلام العاجز، بل هو بحاجة إلى صورة إيجابية تكفل تعزيز نرجسيته وأناه المثلى” وليس ثمة إخضاع كامل كالإخضاع الذي يحفظ مظهر الحرية، لأن المستبد بتلك الطريقة يأسر الإرادة.

فيجب أن يقنع المستبد شعبه أنه أتى لمصلحتهم وتنفيذا لرغبتهم وحفاظا على أمنهم، فيخلع الطاغية القفاز الحديدي والبدلة العسكرية ويلبس قفازا مخمليا وثوبا حريريا ويخفض صوته ويقول لهم: “ألستم نور عنينا؟”.

فيأتي في المقام الأول الحاجات الأساسية للعيش التي تحفظ الحياة وتتمثل في الدخل المادي الذي يوفرها. فيعمد المستبد إلى “التحكم في وتيرة إشباعها كي يمتلك تهديد الحياة نفسها بالاستحواذ على طرق كسب العيش، فهي ذات دافع ملزم وتدفع بالشخص حين لا تتوفر له إلى التخلي عن كل معاييره من أجل الحصول عليها، فيتخلى عن إرادته وكرامته ومكانته وكل اعتباره الذاتي”.

لذلك فالخطوة الأولى التي سيتخذها أي مستبد هي “الإهمال والتجاهل والتهميش والحرمان المقنن من أجل كسر مقاومة الناس وإرادتهم واستقلاليتهم، وبالتالي تطويعهم. فتضع الناس بين خيارين: خضوع وتبعية لقاء الإغداق، أو حرمان ونيل من إنسانية الإنسان وكرامته”.

وتأتي الحاجة إلى الأمن في المقام الثاني من حيث ترتيب الأولويات الإنسانية، فيستغل المستبد حالة “الشدة والقلق الرهيب الذي يتعرض له الشعب” ويعدهم بالأمان من الأخطار “والإرهاب المحتمل” لقاء التأييد والخضوع.

لكن هناك خديعة أخرى “شديدة التأثير” في ممارسة لعبة التحكم والترويض وهي عملية تشكيل السلوك، وتهدف هذه العملية في الأصل إلى تشكيل سلوكيات جديدة لا يقوم بها الإنسان حاليا لكنه يمتلك القدرات لممارستها.

فاذا كنت حاكما على شعب فقير يعاني من الحرمان والتهميش والقلق والتوتر، فالحل بسيط: أقم لهم الاحتفالات والأغاني، “فالاحتفالات تمتص التوترات والإحباطات، وبالتالي تلعب دورا حيويا جدا في تفريغ العدوانية واحتقانها. ومن المعروف أنك إذا أردت أن تفرغ عدوانية جماعة ما، وتحول دون تفجر الصراعات ضمنها والتمرد على سلطتها، ما عليك سوى الإكثار من الأعياد والاحتفالات فيها”.

انطلاقا من هذه المبادئ النفسية-الاجتماعية تتم برمجة الناس على عملية من الاقتران الشرطي بين شخص المستبد والأعياد الوطنية، “لحمة الانتماء والتعلق والاعتزاز. ومن خلال هذا الاقتران والحضور الكثيف بصوره وشاراته خلال الاحتفالات حيث تكثر الزينة، وترفرف الأعلام وتعدد اليافطات ويتم التفنن بالكتابات والشعارات، وتزدحم الألوان المتنوعة والمتآلفة خالقة البهجة، فيصبح المستبد هو الوطن، والوطن هو المستبد”.