بيزنس المال الحرام.. ماذا تعرف عن مشروعات العسكر المشبوهة؟

- ‎فيتقارير

تحت تلك اللافتة “بيزنس الدم والسلطة”، حاول “الحرية والعدالة” قبل 5 سنوات تتبع مسارات إمبراطورية العسكر الاقتصادية المتشابكة، وتسليط الضوء على هذا العالم الخفي، والمحاط بأسوار عالية صنعها الجنرالات عبر السنين الطوال من أجل التستر عن أعين المصريين، وحجب ملامح انتفاخ عروق الانقلاب من مص أقوات الشعب المنكوب.

وبعد 5 سنوات كاملة تغول العسكر بشكل فاحش في كافة مفاصل الدولة، عاد التساؤل ليطرح من جديد، حول استفادة الوطن من إمبراطورية الجيش الاقتصادية، وهي علامة الاستفهام الكبيرة التي طرحها مركز كارنيجي للشرق الأوسط، قبل ساعات قليلة في دراسة نشرها يزيد الصايغ عبر موقع “ميدل إيست”، خاصة بعد التقارير التي كشفت عن أن حجم اقتصاد الانقلاب يقدر بتريليون وخمسمائة مليار جنيه.

عبث البورصة

وقبل نحو عام نشر المعهد المصري للدراسات تقريرا مفصلا حول تاريخ بيزنس العسكر، من عهد عراب الانقلابات جمال عبدالناصر، وحتى الآن، إلا أن التطورات كانت سريعة ومتلاحقة في ظل تضخم اقتصاد الجنرال، وتجاهل إفقار الشعب، وإقدام قائد الانقلاب على طرح الشركات المملوكة للقوات المسلحة في البورصة.

تبرير السيسي لتغول بيزنس الانقلاب جاء في خانة ابتزاز الشعب، باعتباره “ضرورة لسد حاجات استراتيجية أو لتخفيض الأسعار”، غير أن الخطوة فجرت الكثير من المخاوف باعتبار أن الشركات التابعة للجيش لا تخضع لمعايير الشفافية والحوكمة، وهي محددات أساسية للإدراج في البورصة.

وكشف خبراء الاقتصاد عن أن خطوة السيسي تجسد حالة العبث الضارب في الوطن، باعتبار أن لوائح هيئة سوق المال تشترط نشر ميزانية الشركة في آخر عامين قبل الإدراج، ومتابعة الوضع القانوني والإداري داخل الشركة، وهي الأمر الذي يحتاج إلى تبديد ضبابية شركات الجيش بأنواعها وما تملكه من أصول، أو ما تحققه من أرباح، ومن أين يأتي التمويل، أو أين تذهب الأرباح؟

وقللت الكاتبة هيلين سالون، في تقرير لصحيفة “لوموند”، من مبررات السيسي، مشيرة إلى أن الجيش احتكر العديد من القطاعات الاقتصادية، مما تسبب في اختلال توازن الاقتصاد برمته، إلا أن العسكر لم يبد تسامحا تجاه أي انتقادات داخل أوساط الأعمال، بصفته طرفا فاعلا يفرض منافسة غير عادلة.

رفاهية العسكر

مخطئ من يظن أنه قادر على اقتحام أسوار قلعة العسكر الحصينة والتفتيش في أوراق ذلك الكيان الاقتصادي المتوغل والمسيطر والمستحوذ على مفاتيح الخزانة العامة، لتصنع إمبراطورية خارج إطار المحاسبة أو المساءلة أو البحث أو التنقيب، بل ويحاكم كل من يقترب من لافتة “ممنوع الاقتراب والتصوير”.

وقبل سبر أغوار هذا الكيان الغامض، لا بد أن نقف على الميزات التي يتمتع بها الاقتصاد العسكري، والتي لا تتوافر بطبيعة الحال لمن دونه من اقتصاد ينتمي إلى القطاع العام المريض، أو الخاص والذي يختبئ بدوره بشكل أو بآخر داخل “عباءة الكاكي”، حتى بات سوق المال المصري يدور في فلك المعسكر.

بداية، تتوافر للجيش المصري الأيدي العاملة الرخيصة الكلفة والتي تعمل بنظام السخرة، عبر استخدام المجندين إجباريا في مشروعات الجيش، كما أن أرباحه معفاة من الضرائب ومتطلّبات الترخيص التجاري، وفقاً للمادة 47 من قانون الضرائب، فضلا عن إعفاء واردات وزارة الدفاع ووزارة الدولة للإنتاج الحربي من أي ضريبة أو مصاريف جمارك، إلى جانب الاستحواذ على مشروعات الدولة بالأمر المباشر دون منافس، وأخيرا إبادة كل من يعبث بمقدرات ونفوذ تلك الإمبراطورية باعتباره أمن قومي لا يقبل المساس، تحت شعار “الجيش خط أحمر”.

ومنذ دشن عبد الناصر دولة العسكر في خمسينيات القرن الماضي، ابتلع الجيش الدولة بأكملها في “احشائه” وسيطر على الصناعة والزراعة والثروة المعدنية والصناعات العسكرية ومشروعات البنية التحتية وحتى الثروة السمكية والسياحة والرياضة والإعلام، واختلق بدعة “جهاز مشروعات الخدمة الوطنية” وهو جهاز تابع لوزارة الدفاع له الشخصية الاعتبارية، ويتولى دراسة وتنفيذ الأعمال والمشروعات التي تطلبها الوزارات والهيئات ووحدات الحكم المحلى وشركات القطاع العام تنفيذاً للعقود التي تبرم بينه وبين هذه الجهات.

ممنوع الاقتراب

ومع شعور العسكر المتنامي بالتهديد من العبث بأروقة هذا الكيان الهلامي، مع إسقاط ثورة يناير لأحد أباطرة اقتصاد الجيش المخلوع مبارك، واقتحام الرئيس الشرعي المنتخب محمد مرسي لتلك “الحارة المسدودة” لجأ العسكر إلى ما من المفترض أن يجيده- ونسيه مع تطاول بنيانه الاقتصادي- فقرر أن ينقلب على الثورة، ويسقى شجرة كيانه بدماء الثوار، ورافضي سطوة البيادة واستبداد الكاب.

قرابة 6 آلاف شهيد، و80 ألف معتقل، واستفحال الاختفاء القسري والتهجير والنفي الجبري، والحرمان من العودة إلى الوطن، ووأد الحريات وتكميم الأفواه وتأميم الإعلام، وحبس الوطن، هي الضريبة التي دفعها الثوار، لكي يحافظ العسكر على هذا الكيان بعدما استشعر قادة الجيش إمكانية العبث في الصندوق الأسود، والتعاطي مع أرقام الاقتصاد الموازي، فتحركت الدبابة لتطيح بأول رئيس منتخب وتكفل الشامخ بحملة التطهير العرقي.

ومع استحالة فتح الملف الشائك عبر الصحف والإعلام الموالي للانقلاب، خرجت صحيفة “Die Welt” الألمانية، لتؤكد أن الجيش المصري يستحوذ على 40 % من حجم تعامل الاقتصاد المصري، بغض النظر عن مخصصات الميزانية والمعونة الأمريكية التي تقدر بـ1.3 مليار دولار.

ورغم تسارع المتنطعين على مائد العسكر لنفي هذا الرقم، ووصفه بالمبالغ فيه، كانت أكثر التقارير موالاة للجيش تكشف عن سيطرته على 8 % من الاقتصاد.

وما بين 40% و8%، فرض الجيش بمشروعات بارزة واستثمارات غامضة، التمدد في الواقع الاستثمار حتى بات اللاعب الأوحد في ساحة الاقتصاد المريض.

باري لاندو مؤلف كتاب “خدعة الغرب” يصف الجيش المصري، في مقال بعنوان “دولة داخل دولة”، ويقول إن النخبة العسكرية ذات الرتب يتمتعون بمزايا غير محدودة، ويعيشون في رفاهية كبيرة، ولديهم من وسائل المتعة والراحة يعجز عنها المصريون إلا في أحلامهم.

وكشف الكاتب عن أن المصانع العسكر تضاعفت 16 ضعفا منذ وضعت الحرب أوزارها عام 1975، ليست فقط في الأسلحة والمعدات العسكرية ولكن في كافة المجالات، وكل هذه المنتجات تباع بأسعار مخفضة لمخازن الجيش ولكن الكمية الأكبر منها تباع تجاريا في الأسواق المحلية.

وتحت عنوان “الجيش المصري يتقدم ويكافح ويبيع الدجاج”، طرحت مجلة “بيزنس ويك” سؤالا بعد خلع مبارك: هل سيدعم المجلس العسكري الإصلاحات الاقتصادية والتي تهدد مصالحه وتفككها؟

ونقلت عن جوشوا ستاشر، الخبير العسكري في الشئون المصرية والأستاذ المساعد في جامعة كينت ستيت في ولاية أوهايو، تساؤله كيف تكون عائدات الدولة من الشركات العسكرية سرًا من أسرار الدولة، تماما مثل ميزانيتها العسكرية مع أن ثلث اقتصاد البلاد تحت حكم العسكر.

بيزنس الدم

ومع ندرة المعلومات حول بيزنس العسكر، الذي كشف اللواء محمود نصر عضو المجلس العسكري ومساعد وزير الدفاع للشئون المالية استراتيجية العسكر في الاستماتة عليه، بأن اعتبره نتاج عرق القوات المسلحة على مدار سنوات، ولن يقبل الجيش التفريط فيه بأي حال.

إلا أن ما أمكن التوصل إليه أن 4 جهات عسكرية تعمل في مجال الإنتاج المدني، وباتت تتحكم في قرابة 40% من الاقتصاد بحسب المصادر، أو 2% في رواية السيسي لـ”رويترز”، وهي:

أولا: “جهاز مشروعات الخدمة الوطنية” التابع له عدد من الشركات تغطي مجموعة واسعة من القطاعات، منها شركات: النصر للكيماويات الوسيطة، العريش للأسمنت، الوطنية للبترول، الوطنية لإنتاج وتعبئة المياه “صافي”، مكرونة كوين، الوطنية لاستصلاح وزراعة الأراضي، النصر للخدمات والصيانة “كوين سيرفس”، مصر العليا للتصنيع الزراعي، مصنع إنتاج المشمعات البلاستيك، بخلاف قطاع الأمن الغذائي الذي يتبع الجهاز، وقطاعات السياحة والفندقة.

ثانيا: الهيئة القومية للإنتاج الحربي التي تملك أكثر من 15 مصنعًا للصناعات العسكرية والمدنية (الأجهزة الكهربائية والإلكترونية بشكل أساسي).

ثالثا: الهيئة العربية للتصنيع، التي تدير 11 مصنعًا وشركة في مصر تعمل في العديد من المجالات في الصناعات العسكرية والمدنية، ويباع 70% من إنتاجها بالأسواق المصرية.

رابعا: الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، المتخصصة في مجالات الإنشاءات العسكرية والمدنية، ومشروعات البنية التحتية والطرق والكباري، وبناء المدارس، ومجالات التنمية السياحية وتطوير المنشآت الرياضية، ومشروعات الإسكان الاقتصادي، والتخطيط العام للمدن.

وكشفت مصادر أمن داخل المؤسسة العسكرية عن أن إنتاج الشركة الواحدة يقدر بـ5 مليار دولار سنويا، تضاف إلى عائدات تحكم المخابرات المصرية في 70% من حجم التعامل على الإنترنت في مصر – وفقا لـ”ويكيليكس”، تنضم جميعها إلى 11 مليار جنيه، هي ميزانية الجيش في الموازنة العامة للدولة.

ويدافع إعلام السيسي عن التهام الانقلاب لكعكة الاستثمار واحتكار المال العام بأن أهم أسباب إسناد المشروعات للقوات المسلحة هو كونها تنفذ مشروعاتها بجودة عالية وتكلفة قليلة جدًا وفي الوقت المطلوب، غير أن المقاول محمد علي عندما فتح نافذة صغيرة على عالم القصور والتربح والفساد والمال الحرام، كشف عن عورة هذا النظام، وفضح أكاذيب تلك الأصوات المتربحة، بينما اختفت أصوات المعارضة لهذا التنامي الواضح في اقتصاد الجيش والانتفاخ المتزايد في خزانة العسكر، باستثناء أصوات خفيضة تظهر على استحياء، للتذكير بأن لها شركات حرمها العسكر من الحياة أو التنافس.

قوانين مشبوهة

ومن أجل الحفاظ على تلك الإمبراطورية من الدخلاء، شرع دولة العسكر من الخمسينيات إلى سن القوانين التي تضمن تفوق وتنامي مشروعات الجيش، كان نتاجها إعفاء أرباح الجيش من الضرائب ومتطلّبات الترخيص التجاري وفقاً للمادة 47 من قانون ضريبة الدخل لعام 2005.

وتنصّ المادة الأولى من قانون الإعفاءات الجمركية لعام 1986 على إعفاء واردات وزارة الدفاع ووزارة الدولة للإنتاج الحربي من أي ضريبة. وهو ما يعطي للجيش المصري ميزة نسبية في أنشطته التجارية لا تمتلكها باقي الشركات المملوكة للدولة أو شركات القطاع الخاص”.

ولا تمر مصادر دخل المؤسسة العسكرية عبر الخزينة العامة للدولة؛ حيث يوجد مكتب خاص في وزارة المالية مسئوليته التدقيق في حسابات القوات المسلحة، والهيئات التابعة لها، وبياناته وتقاريره لا تخضع لسيطرة أو إشراف البرلمان أو أي هيئة مدنية أخري.

وعدّل المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مايو 2011، الذي كان يتولّى حكم البلاد آنذاك، قانون القضاء العسكري، وأضاف مادّة تعطي النيابة والقضاة العسكريين وحدهم الحق في التحقيق في الكسب غير المشروع لضباط الجيش، حتى لو بدأ التحقيق بعد تقاعد الضابط، وبالتالي تجعل هذه المادة الضباط المتقاعدين بمنأى عن أي محاكمة أمام القضاء المدني.

وفي أعقاب الانقلاب، سبتمبر 2013، أصدر عدلي منصور الذي شغل منصب الرئيس المؤقّت بعد الانقلاب على الشهيد محمد مرسي، مرسومًا بتعديل القانون الصادر في عام 1998 بشأن المناقصات والمزايدات العامة، يسمح للمسئولين الحكوميين بتخطّي إجراءات المناقصة العامة في الحالات “العاجلة”، إلا أنه لم يحدد هذه الحالات، ويرفع التعديل قيمة الخدمات أو الممتلكات التي يمكن للمسئولين في الدولة شراؤها وبيعها بالأمر المباشر.

وفي إبريل 2014، وافقت الحكومة على القانون الذي يقيّد حق الأطراف الأخرى في الطعن على العقود التجارية والعقارية الموقّعة مع الدولة، وقد أصبح هذا الحق الآن محفوظًا للحكومة والمؤسّسات المشاركة في الصفقة والشركاء التجاريين، وعلى الرغم من أن الحكومة برّرت هذا القانون بوصفه وسيلة لتشجيع الاستثمار الأجنبي، فإنه من المحتمل أن يؤدّي هذا الإجراء إلى تقليص الرقابة والمساءلة الشعبية للحكومة.