الشعوب التي تربت على الخوف والعنف والقمع تحت بيادة سلطة انقلاب عسكري، هي أكثر شعوب تُنتج الخوف والقمع والعنف وتمارسه، وهي أكثر الشعوب حرصا على ألاّ يشرد أحد عن القطيع، ليس خوفا على الشارد، ولكنه الخوف من أن يعكر ويحرك هدوء المستنقع الأسود الذي سقطت فيه مصر.
“اللي شايف نفسه مبسوط ونفسه يحزن أنا خدَّامه، يديني رنة بس”، يقول “نخنوخ” في مشهد كوميدي من فيلم “لخمة راس” قبل أن يفاجئه صبيه “دبشه” من خلفه معاتبًا “ياريس أنا اتبهدلت من يوم ما سبتني ورحت السجن، كانوا مفكرينك مش راجع تاني”.
بعد 12 عامًا من إنتاج الفيلم الساخر، يتحول المشهد الكوميدي إلى مشهد واقعي، مع إفراج سلطات الانقلاب عن أشهر بلطجي في البلاد الشهير باسم “نخنوخ” بعفو رئاسي من جنرال إسرائيل السفيه عبد الفتاح السيسي، فيما تعالت الأصوات المنتقدة للقرار كون المتهم أحد أخطر المجرمين في مصر، ويدير شبكة فرعونية كبيرة من البلطجية قوامها 600 ألف بلطجي بين رجل وامرأة برعاية الداخلية.
ديلر مخدرات
ولم يدر “أحمد حسن” صاحب الأربعين عاما من عمره، مقاول، أن عودته مبكرا إلى منزله ستكشف له عن مفاجأة صادمة، حمل معها لقب “مجني عليه”، بعدما لاحظ عدة مرات أحد الشباب ويعمل “ديلر مخدرات” ينتمي إلى شبكة بلطجية الداخلية، متخذا أسفل منزله وكرا لبيع مخدر الإستروكس، إذ اعترض على ذلك المشهد العبثي قائلا، “بعد إذنكم بعيد عن هنا، ماحدش يقف هنا تاني، واللى هشوفه بيبيع مخدرات هنا هسلمه للشرطة”، ولم يكن يعلم القتيل أن المجرمين في حماية قسم الشرطة!.
وخرج المدعو صبري حلمي حنا نخنوخ بعد أن تصدر كشوف العفو الانقلابي، وخرجت معه هواجس المواطنين عن عودة شبكات البلطجة التي روعت المصريين لسنوات مضت إلى أحضان انقلاب العسكر، ما أثار الكثير من علامات الاستفهام، كونه متهمًا في قضايا مخدرات وترويع آمنين باستخدام السلاح، وتهديد السلم والأمن الداخلي، وعلاقاته بأجهزة الأمن.
وسمع ”محمود شندي”، أشهر تاجر مخدرات بمنطقة الجمهورية التابعة لمنطقة السلام شمال محافظة القاهرة، صوت حديث ”أحمد” مع أصدقائه، ونشبت بينهما مشاجرة دموية أودت بحياته، وسدد له عدة طعنات في الجسد ليسقط جثة هامدة في الحال، وفر هاربًا ومن معه.
يقول “طه أحمد”، أحد سكان المنطقة، عن تلك الواقعة المأساوية: ”الشخص اللى اتوفى ده صاحبى واحد من أكتر الشخصيات المحترمة اللى ممكن تشوفها فى حياتك.. المنطقة مليانة بياعين استروكس فى الجمهورية ومحدش قادر يتكلم، مات لأنه راجل ومقبلش بالوضع القذر ده من بياعين الاستروكس علنى فى عز الظهر”، مضيفا “المنطقة أصبحت وكرا للمخدرات وفيه ستات وبنات ساكنين في الشارع ومش عارفين يمروا منهم، معاكسات وقلة أدب”.
ولأن البلطجية في حماية الشرطة في زمن الانقلاب، يقول شقيق المجني عليه يائسا من تحقيق العدالة: “بعد إذنكوا اللي بيحبني واللي عاوز يقف معايا يساعدنا في نشر وشهرة القضية عشان نحاول نوصلها تبقي رأي عام المرة دي القاتل معندوش 18 سنة يعني لو قدرنا نوصلها إن شاء الله حق أخويا هيرجع.. بعد إذنكوا الكل يعمل شير واللي يقدر يساعد في نشر القضية ميتأخرش ومش هنسي لأي حد إنه وقف جمبي في وقت زي ده”.
وتابع: “التفاصيل إن إحنا عندنا في مدينة السلام مساكن الجمهورية 2 عندنا بقت عبارة عن منبع استروكس والبيع بقي علني بالشوال احمد الوحيد اللي مسكتش من الناس كلها عشان الناس خايفة هو اتكلم عشان مش عاوز ده عشان ولاده وأبوه وأمه وبنات الناس وكمان جمب الجامع أحمد كان الاول بيكلمهم”.
موضحا: “ويقولهم بلاش مرة واتنين وبعد كدة بقي يزعق معاهم عشان يمشوا من هنا مرة واتنين وتلاتة يزعق معاهم بقالوا فترة على كده والحكومة صباح الخير يوم الأربعاء قبل الفطار، المعلم اللي مشغلهم اتمسك وفي القسم قالولهم ده حد من المنطقة اللي مبلغ فهمّا حطوا في دماغهم إن أحمد هو اللي مبلغ عنهم”.
وتابع: “وهو اللص سلمه للحكومة بقوا عاوزين يشاكلوه بعتوا 2 يشربوا استروكس قدام الجامع عشان أحمد يزعقلهم ويتشاكلوا معاه فعلا أحمد راجع من الشغل أول مرة يرجع الساعة 12.30 قبل السحور كان كل يوم يرجع 6 الصبح، هو بيشتغل بعد الفطار مقاول نقاشة المهم زعقلهم ومشاهم من هنا، وقالهم ده انتو حتي علي باب جامع وزعقلهم ومشاهم راحوا تاني المربع اللي هما بيعدوا فيه ده عند بيت ابوه البلوك بتاعه وبتاع ابوه ورا بعض عملوا مشكلة مع ابوه واخوه فجر الخميس، وضربوا أبوه الراجل الكبير عنده 74 سنة بعد ما واحد كان ماسكه واتعور 6 غرز أحمد كان نايم شوية قبل السحور”.
واستطرد شقيق المجني عليه: “قام علي تليفون إن في خناقة مع أبوه وأخوه وأبوه متعور.. طبعا نزل ف ثانية أول ما شافوه كان مترصدله غدر بيه من غير ما ياخد باله واداله أول طعنة عند فخدته قطعت الشريان الرئيسى للقلب عمقها 20 سنتي وطعنه في جمبه وطعنه عند كتفه كدة كان دمه بيتصفي وتوفي في ساعتها”.
وختم بالقول: “والقاتل المجرم بقي واقف يقول قتلته وبيتباها حد عاوز يموتتاني لو حد عاوز يموت ييجي وده جزاء اللي يتكلم.. أحمد عنده 3 أولاد صغيرين أكبر واحد فيهم في اولي ثانوي وبنته في اعدادي وابنه الصغير في ابتدائي”.
أبرز البلطجية
ويعد البلطجي قاتل ضحية السلام، واحدا من جيش يبلغ قوامه 600 بلطجي يتبع “نخنوخ” الذي لمع اسمه بقوة كأحد أبرز البلطجية خلال انتخابات مجلس الشعب المزورة في 2010، حيث لعب دورًا كبيرًا في عدم استقرار الأمن الداخلي خلال هذه الفترة، وكان له ولرجاله دور بارز في المظاهرات المدبرة ضد الرئيس الشهيد محمد مرسي وحرق مقرات جماعة الإخوان وحزب الحرية والعدالة، وقتل المتظاهرين وترويع الآمنين وقطع الطرق وسرقة السيارات، ومحاولة اقتحام السفارة الأمريكية.
وكان الدور الأبرز لنخنوخ في الاعتصامات التي شهدها ميدان التحرير في الفترة من فبراير وحتى أبريل 2012، وهي الاعتصامات التي كان يقودها البلطجية التابعون لنخنوخ تحت لافتة الثوار، وحاولوا خلالها اقتحام مبنى وزارة الداخلية، لمنع تقرير لجنة تقصي الحقائق عن أحداث الثورة الذي أمر الرئيس الشهيد محمد مرسي بإعداده.
أقر نخنوخ بعلاقاته الوطيدة بمسؤولي نظام مبارك السابق وتحديدًا بوزارة الداخلية قبيل دخوله للسجن، ورُصدت لإمبراطورتيه أدوارًا حاسمة في حسم انتخابات مجلس الشعب على مدار دورات أعوام 2000 و 2005 و 2010 لإحكام سيطرة الحزب الحاكم على صناديقها، ظاهرة وثقتها المعارضة المصرية وقتها بشكل شديد الروتينية كجزء من قواعد اللعبة المعتادة مع نظام مبارك.
ولم تكن مهام وأعمال نخنوخ عشوائية، بل حاول تنظيمها لتظهر بصورة غاية في الترتيب مكاتب لتوريد البلطجية تستخدم في مساعدة مرشحي مجلس الشعب مبارك، خاصة في مناطق البساتين والمهندسين والهرم وفيصل، ومساعدة لوزارة الداخلية في الملف السياسي ما وفر له نفوذًا غير مسبوق، وحراسات خاصة لصالح شخصيات عامة متنفذة، وسطوة وقوة نميا تدريجيًا ليستخدما بجانب ذلك في حل النزاعات العرفية الكبيرة، وحماية منشآت وأراض استثمارية متنازع عليها، وشبكة تأمين لملاهي ليلية تعمل على نطاق واسع، باختصار، مثل الرجل إمبراطورية خدمات أمنية غير شرعية موازية بكل ما في الكلمة من معنى.
ولا يُعرف تحديدًا حتى الآن دوره القادم، كونه لا يزال محتفظًا على الأرجح بشبكته التي كونها منذ عهد مبارك، والتي كانت تدار بواسطة أمن الدولة الأمن الوطني حاليًا، لذا سيكون البحث عن دور نخنوخ القادم على الأرجح في ظل الخارطة الدموية للسيسي، من لم يتخل بالكلية عن شبكات الحزب الوطني لكنه فضل أن يُبقيها بعيدة عن الضوء، فقد وثقت الأحداث استخدام العسكر مرتزقة لمواجهة التظاهرات التي خرجت رفضًا للانقلاب على الرئيس الشهيد محمد مرسي، وقد سقط بعضهم جراء اشتباكات مع متظاهرين ومن أشهرهم السيد العيسوي.
يذكر أنه بعد الثورة، خرج فجأة لهذا الملف الشائك النائب البرلماني آنذاك محمد البلتاجي، الطبيب الشهير وأحد رموز “جماعة الإخوان المسلمين” المعتقل حاليا في سجن العقرب، وعمل البلتاجي بتركيز على ملف شبكة المرتزقة الأمني أثناء تواجده في مجلس نواب عام 2012 قبيل حله، وسلط الضوء عليها، واتهم البلتاجي “نخنوخ” تحديدًا بإدارة شبكة البلطجة في مصر مدفوعًا بصلته الوثيقة بقيادات أمنية وسياسية للنظام السابق، كما اتهمه بضلوع شبكته في قتل شهداء 25 يناير، وكان ذلك بناء على شهادة سمعها البلتاجي بنفسه من وزير الداخلية الأسبق “أحمد جمال الدين” قال فيها أن “نخنوخ” يعد “أكبر مورد بلطجية على مستوى القطر المصري”.