كورونا وأزمة “سر التناول”.. لماذا لم يطالب السيسي الكنيسة بتجديد الخطاب الديني؟

- ‎فيتقارير

انتهت ورقة بحثية حديثة إلى أنه رغم تمسك الكنيسة الأرثوذوكسية المصرية في بداية تفشي عدوى كورونا بطقس "التناول" الذي أفضى إلى وفاة عدد من الكهنة ورعايا الكنيسة، إلا أن قائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي وأركان نظامه وحكومته لم يصدر عنهم طلب واحد للكنيسة بضرورة تجديد الخطاب الديني كما فعل مع الأزهر وعلماء الإسلام من قبل، وحتى التقرير الوحيد الذي صدر في إحدى المجلات الحكومية ينتقد مواقف بعض الكهنة المتشددين تم مصادرة المجلة كلها ومنع توزيعها وإحالة رئيس تحريرها ومحرر التقرير للتحقيق في تأكيد على أن هدف السيسي والنظام من دعوات تجديد الخطاب الديني تختص بالإسلام فقط؛ لأهداف سياسية، أهمها التزلف للحكومات الغربية واسترضاء الإدارة الأمريكية التي تنتمي إلى اليمين المتطرف والذين يرون في تشدد السيسي تجاه الإسلام والحركات الإسلامية، واتهام الإسلام بالإرهاب، هو شكل من أشكال حماية المصالح الأمريكية والغربية في مصر والمنطقة. والهدف الثاني هو ابتزاز الأزهر ليكون شيخه وهيئة كبار علمائه أكثر طوعا وإذعانا للنظام، وهو ما تحقق بالفعل والمؤشر على ذلك هو صمت الأزهر على مشروع قانون هيئة الأوقاف الذي وافقت عليه مؤخرا لجنة الشئون الدينية بالبرلمان، والذي يمنح السيسي صلاحية التصرف في أموال الوقف بما يناقض أحكام الشريعة الإسلامية وفتوى هيئة كبار العلماء في مارس 2018.

وبحسب الورقة البحثية التي نشرها موقع "الشارع السياسي" بعنوان "الكنيسة وتجديد الخطاب الديني.. أبعاد أزمة "سر التناول"، فإن الكنيسة وجدت نفسها في ورطة كبيرة مع تفشي جائحة كورونا وانتشار عدواها في مصر خلال الشهور الماضية؛ حيث أثير بشدة موضوع تجديد الخطاب الديني داخل الكنيسة بشأن سر التناول، الذي يعد طقسا كنسيا قديما، وأحد الأسرار السبعة للكنيسة، ويتضمن إقامة قداس تجري خلاله الصلوات على الخبز والخمر وفي نهاية القداس يُعطى الكاهن لجميع رعايا الكنيسة المشاركين في القداس من ملعقة فضية واحدة موجودة بكل كنيسة تسمى "الماستير"، حيث يناول بها الكاهن المشاركين في هذا الطقس شربة من الخمر في فمهم بذات الملعقة، ويعتبر الأقباط التناول تذكيراً بالعشاء الأخير الذي تناوله السيد المسيح بصحبة تلاميذه.

سبب الأزمة
سبب الأزمة أن كثيرا من كهنة الكنيسة أصروا على إقامة قداس "سر التناول" مع تفشي العدوى إيمانا منهم بأن الإيمان سيمنع انتقال العدوى عبر الصلاة وإقامة قداس التناول؛ لكن وفاة 10 كهنة بفيروس كورونا خلال شهر يونيو الماضي لتشددهم وتجاهلهم التحذيرات العلمية التي دعت إلى ضرورة التباعد الاجتماعي وعدم استخدام أدوات الطعام والشراب التي يستخدمها الآخرون؛ فجرت جدلا واسعا داخل الكنيسة حول ضرورة تجديد الخطاب الديني بما يفضي إلى ضرورة التصالح بين إيمان الكنيسة من جهة والنظريات العلمية من جهة ثانية.

وازدادت الأزمة عمقا واتساعا بعد تصريحات بعض القساوسة التي عبروا فيها عن إصرارهم على استمرار الكنيسة في طقس التناول في الوقت الذي تزداد فيه حالات الوفيات والإصابات بين الكهنة. في الوقت الذي التزمت فيه الكنيسة الصمت ولم تصدر بيانات رسمية تكشف عن حقيقة تفشي العدوى بين كهنتها ورعاياها. وفي 23 يونيو 2020م، واجهت الكنيسة الانتقادات التي طالتها والورطة التي وجدت نفسها فيها بالإعلان عن إجراءات احترازية مع بدء فتح الكنائس السبت في 27 يونيو، ومنها بحث تغيير طقس التناول، ما وضع الكنيسة أمام اختيارين كلاهما مرّ:

إما الإصرار على ممارسة طقس التناول كما هو دون تغيير والمخاطرة بصحة رعاياها ونشر العدوى بينهم ما قد يدفع إلى تمرّدهم على الكنيسة، والثاني تغيير الطقس وبالتالي تغذية الأزمة المتواصلة بين التيار المتشدد الذي ينتمي إلى أنصار البابا شنودة وتلاميذه المنتشرين في الكنائس والفريق الثاني الذي يقوده البابا في سياق الصراع الدائر بين التيارين بخلاف موقف التيار العلماني القبطي الذي يميل إلى مواقف البابا قليلا رغم مخالفته في مواقف أخرى.
وبحسب الورقة البحثية ، فإن الأزمة أخذت أبعادا سياسية داخل الكنيسة في إطار الصراع الدائر بين تيار البابا الراحل شنودة وتيار البابا الحالي تواضروس؛ وأعاد الخلاف بشأنه الانقسامات العميقة داخل المجتمع القبطي، كما أعاد الاستقطاب بين تياري شنودة وتواضروس اللذين يتصارعان على قيادة شعب الكنيسة.

وفاقم الأزمة أن بعض الكنائس الأرثوذوكسية التابعة للكنيسة المصرية في عدد من الدول الغربية التزمت بالقرارات التي أصدرتها حكومات هذه الدول وغيرت طريقة طقس "التناول" بناء على شكاوى من بعض الأقباط هناك الذين خشوا من أن الطريقة التي يؤدى بها "التناول" قد تؤدي إلى نقل العدوى. وهو ما اعتبره الكهنة المتشددون في مصر تنازلا من البابا والكنيسة، بينما دافع عنه الأب أنتوني حنا، كاهن كنيسة السيدة العذراء ومارمينا بولاية كاليفورنيا الأمريكية، في مقطع فيديو قائلا: "أرفض وصف قداسة البابا تواضروس بالهرطوقي، الحكومة والسلطات في أمريكا أجبرتنا على تغيير طريقة التناول، وإلا سيتم إغلاق كنائسنا في المهجر"، مضيفاً أنَّ الطرق المقترحة هي توصيات صحية في وضع استثنائي بحت، "لا نشك في جسد المسيح ودمه، لكننا لا نستطيع أن نُجبر السلطات والحكومات على إيماننا، أي تعنت سيكون نتيجته غلق الكنائس".

وازداد الانقسام والاستقطاب عمقا في أعقاب تصريحات البابا تواضروس مع الصحفي فيكتور سلامة على صفحات جريدة "وطني" القبطية في سياق تعليقه على الجدل الدائر بشأن سر التناول في ظل تفشي جائحة كورونا واحتمال نقل العدوى بين رعايا الكنيسة حيث قال «‏لم‏ ‏نفكر‏ ‏في‏ ‏هذا‏، ‏ولم‏ ‏نناقشه‏ ‏في‏ ‏اجتماعات‏ ‏اللجنة‏ ‏الدائمة‏ ‏للمجمع‏ ‏المقدس‏، ‏ولكنه‏ ‏أمر‏ ‏وارد‏». وبسبب استخدام كلمة "أمر وارد" تعرَّض البابا ومَن يطالبون بتعليق العمل بطقس التناول للرفض والاستهجان من قساوسة متشددين وتيارات مناصرة لهم، اعتبرت مجرد التفكير في تعطيل الطقس هو بمثابة ضعف إيمان وتشكيك في قداسة التناول. وفي تعليقات لقناة "سي تي في" التابعة للكنيسة الأرثوذكسية، قال الأنبا رفائيل، الأسقف العام لكنائس وسط القاهرة (الذي نشرت صورته على غلاف مجلة روزاليوسف الممنوع): "نؤمن أن سر التناول هو سر الحياة، وهو الشافي من مرض الخطية، وأمراض الجسد والنفس والروح، وبالتالي هو طقس إيماني بحت لا يصلح أن نتعامل معه بقواعد العلم"، وادعى أنه "في أثناء انتشار أوبئة مثل الكوليرا والطاعون لم نسمع في كل تاريخ الكنيسة أن أشخاصاً ماتوا نتيجة التناول"، واكتفى بتوجيه المشاهدين إلى الكف عن الأحضان والقبلات عند التحية وضرورة غسل اليدين باستمرار. ووصل الأمر إلى أن الأنبا يؤانس، أسقف أسيوط، الذي يحمل شهادة علمية في الطب، قال خلال اجتماعه الأسبوعي بكاتدرائية رئيس الملائكة ميخائيل، بمدينة أسيوط، وبحضور مئات الأقباط: "لو فيه عدد قليل من أسيوط هيصلي من كل قلبهم كورونا مش هيقرب مننا"، مكرراً العبارة، ومطالباً الجموع بالترديد خلفه.

التغطية على الأزمة
جرى التغطية على الأزمة داخل الكنيسة بإجراءين:
الأول: هو محاولة جر الأزمة نحو مربع مختلف والتغطية على القصف المتواصل بين كهنة الكنيسة من الأجنحة المختلفة، حيث انتهزت قيادة الكنيسة الغلاف المسرب لمجلة "روزاليوسف" قبل التوزيع ، يتضمن صورة للأنبا رفائيل، وهو أحد الكهنة المتشددين، مع عنوان "الجهل المقدس"، كما ألحقت صورة الأنبا بعنوان فرعي: "أساقفة يتحالفون مع كوفيد ١٩ ضد البابا.. القتل باسم الرب"، ما دفع الحكومة وأجهزتها الأمنية والإعلامية للتدخل السريع بتغيير الغلاف قبل طرح المجلة في الأسواق. ومن دواعى الأسف أن الكنيسة في انتقادها لغلاف المجلة المستفز تجاهلت القضية الأصلية وهي أزمة سر التناول وتعصب كثير من كهنة الكنيسة وتشددهم بهذا الشأن بما يهدد حياة وصحة رعايا الكنيسة باسم الإيمان، وراحت تنتقد صورة الغلاف التي جمعت الكاهن المتطرف رفائيل مع فضيلة المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين الدكتور محمد بديع أستاذ الطب البيطري بكلية العلوم بجامعة بني سويف وأحد أهم مائة عالم في العالم العربي. ذلك أن الكنيسة ترى في بديع ــ كما ترى سلطة الانقلاب ــ أنه أحد قادة الإرهاب وهو المعتقل منذ انقلاب 2013 على ذمة اتهامات سياسية ملفقة والذي لم يثبت يوما أنه تسبب في إيذاء أحد وهو أيضا صاحب العبارة الشهيرة "سلميتنا أقوى من الرصاص".

الثاني: هو مخرجات اجتماع "المجمع المقدس" يوم 27 يونيو برئاسة البابا والذي انتهى إلى تفويض أساقفة الإبراشيات في فتح أو استمرار غلق الكنائس طبقا لظروف كل إيبارشية من حيث حجم ومدى انتشار العدوى، بناء على تقدير الموقف الصحي داخل كل إبراشية. أما بشأن أزمة «طقس التناول» فقد جرى الاتفاق على استمرار الطريقة التقليدية في الكنائس التي بها أكثر من كاهن عبر "المستير"، على أن يجرى الاستثناء من ذلك بالنسبة للكنائس التي بها كاهن واحد فقط وبها عدد كبير، حيث سيتم سر التناول بعد رجوع الكاهن إلى أسقف إيبارشيته بالطريقة الاستثنائية وهي طريقة "مناولة المرضى والمسجونيين"، بصورة استثنائية وفي أضيق الظروف على أن يجرى العودة للطريقة التقليدية بعد انتهاء مسببات اتخاذ القرار.

ودافع البابا عن موقف الكنيسة مهاجما الكهنة والجهات التي انتقدت تعليق "طقس التناول"، وفي افتتاحية مجلة الكرازة الناطقة بلسان الكنيسة في عددها الصادر في 27 يونيو على الموقع الرسمي لها على شبكة الإنترنت، وصف البابا منتقدي الكنيسة بأعداء الخير الذين يشككون في الإيمان المستقيم لها بشائعات وهرطقات وأكاذيب وضلالات. وهي التصريحات التي تعزز صراع الأجنحة بين التيارين داخل الكنيسة.