ظل الشعب اللبناني يتظاهر في الشوراع سنوات طويلة من أجل إصلاح المنظومة السياسية والاقتصادية التي تدير البلاد، ولم يستجِب أحد، بل زاد التناحر والتنابز وتكسير العظام بين الطبقة السياسية، ولما جاءتهم الأوامر من المحتل الفرنسي بدأت مشاورات تشكيل حكومة لبنان وتعهد بتأليفها خلال أسبوعين.
وأشعلت صور المغنية اللبنانية فيروز، خلال لقائها بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في دارها بمنطقة الرابية شمال بيروت، مواقع التواصل الاجتماعي في العديد من الدول العربية.
احتلال فرنسي
وكان الرئيس الفرنسي قد زار دار الفنانة اللبنانية بمنطقة الرابية شمال بيروت فور وصوله إلى بيروت، ونشرت الفنانة اللبنانية صورا جمعتها بالرئيس الفرنسي، الذي منحها وسام جوقة الشرف وهو أعلى تكريم رسمي في فرنسا، عبر صفحاتها الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي.
ورفضت مجموعات مدنية لبنانية، عقد لقاءات مع مدير دائرة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في وزارة الخارجيّة الفرنسيّة، كريستوف فرنو، معتبرة أن نشاطه يمثل تدخلًا في الشئون اللبنانية.
ووصل فارنو بيروت لعقد لقاءات مع مسئولين وممثلين عن المجتمع المدنيّ حول الأوضاع في البلد الذي يشهد احتجاجات شعبية متواصلة منذ 17 أكتوبر الماضي.
وفرنسا هي البلد المحتل سابقًا للبنان مابين عامي1920و 1943 ميلادية، وتتمتع بنفوذ فيه، وقالت مجموعة "بيروت مدينتي"، عبر صفحتها بـ"فيسبوك"، إنها اعتذرت عن عدم تلبية دعوة تلقاها عدد من أعضائها للقاء الموفد الفرنسي.
وأضافت أن هذه الخطوة "تأتي انسجامًا مع إيمانها المطلق والثابت بسيادة الدّولة اللّبنانيّة"، وتابعت: "انطلاقًا من قناعتنا بأننا ملتزمون وقادرون على بناء دولة من دون أي مساعدة أو وساطة أو تدخل خارجي، وأنّ مطالب الناس والثوار واضحة لا حاجة لتفسيرها خارج الشارع والسّاحات".
واستنكر تحالف "وطني" (مدنيّ)، في بيانٍ، الزجّ باسمه في سلسلة لقاءات المسئول الفرنسي، وقال التحالف إنه "لم يجر أيّ اتصالٍ بالموفد الفرنسيّ ويحذّر ويندّد بأيّ اتصالٍ به من أيّ مجموعةٍ أو فردٍ في الثورة بإدّعاء تمثيلها". وأردف: "فالثورة لا ممثّل لها إلّا نفسها من جهة، ولأنّ التحالف يرفض ويدين أيّ تدخلٍ في شئون لبنان الداخليّة من أيّ جهة كانت".
كما قالت مجموعة "لِحَقّي" (مدنيّة)، في بيان: "يتم تداول معلومات مفادها أن مبعوث وزارة الخارجية الفرنسية سيقوم بلقاءات تمثل الحراك المدني، ومن خلفه الانتفاضة الشعبية، بعد أن عجزت المنظومة الحاكمة عن القيام بتنصيب ممثلين لهذه الانتفاضة".
وأعربت المجموعة عن "رفضها أيّ تدخل خارجي وتواصل من جهات خارجيّة مع مجموعات سياسيّة لبنانيّة لا قيادة ولا تفاوض، وليس هناك مشروعيّة لأي جهة أو مجموعة تتحدّث أو تتّصل بالسلطة، أو بأيّ مبعوث خارجيّ باسم الثورة والمنتفضين".
وشددت على أن "أي توزير لأفراد مُستقلّين ذوي تاريخ معارض لا يَعني تحقيق تمثيل الثورة والحراك في الحكومة. فلا تمثيل للناس المُنتفضة إلّا من خلال الانتخابات النيابيّة، على أساس قانون انتخابيّ عادل".
وأجبرت الاحتجاجات سعد الحريري، في 29 من الشهر الماضي، على تقديم استقالة حكومته، لتتحول إلى حكومة تصريف أعمال، لكن المحتجين يصرون على تنفيذ بقية مطالبهم، في بلد يعاني من أسوأ أزمة اقتصادية منذ الحرب الأهلية بين 1975 و1990.
ومن بين تلك المطالب: تسريع عملية تشكيل حكومة تكنوقراط، إجراء انتخابات مبكرة، استعادة الأموال المنهوبة، محاسبة المفسدين في السلطة، ورحيل بقية مكونات الطبقة الحاكمة التي يرون أنها فاسدة وتفتقر للكفاءة.
إغلاق المصارف
وعقب لقائه الرئيس اللبناني، ميشال عون، قال المنسق الخاص للأمم المتحدة بلبنان، يان كوبيش، إن "الوضع المالي والاقتصادي حرج، والحكومة والسلطات الأخرى لا يمكنها الانتظار أكثر من ذلك لمعالجته".
وحثّ كوبيش، في بيان، السلطات على إعطاء الأولويّة للاستقرار النقديّ والماليّ، وبالتزامن مع إغلاق المصارف والمدارس أبوابها، عمد محتجون، إلى منع الموظفين من الدخول إلى مؤسّسات عامّة، لفرض إضراب عام، احتجاجًا على تأخر تشكيل حكومة تلبي مطالبهم.
في المشهد العام، بدا أن زيارة الرئيس الفرنسي، لمعاينة وضعٍ كارثيٍّ، وتقديم المُساعدة للبنان، وهو أوّل رئيس يزور البلد المنكوب، بعد ثلاثة أيّام على الكارثة، التي خلّفت وراءها، 137 قتيلاً، وإصابة 4 آلاف بجروح، وهي حصيلة لا تزال قابلة للارتفاع، في ظل وجود أشخاص مفقودين.
لم تقتصر زيارة ماكرون على تفقّد مكان الانفجار، وتحديدًا شارع الجميّزة، بل أصرّ الرئيس الفرنسي، وفي مشهدٍ خارجٍ عن الأعراف وفق مُعلّقين، الوقوف والاستماع لمطالب المُواطنين اللبنانيين بعد الانفجار ومُعاناتهم، وهو كأنّما يُمثّل أحد المسئولين اللبنانيين في الحُكومة، يُحاول ماكرون هُنا استغلال النقمة الشعبيّة على الحكومة الحاليّة، والسبب أنّها حكومة محسوبة على ميلشيا “حزب الله” الشيعية الموالية لإيران، في المُقابل التحقيقات لا تزال جارية، ولم يصدر ما يرجّح حتى الآن، أنّ الحادثة وقعت بفعل فاعل.
يَعِد الرئيس الفرنسي في تصريحات للصحفيين كذلك الأمر، بأنّه يُريد تنظيم مُساعدات دوليّة للبنان، لكنّه يُعاود اشتراط الإصلاحات كشرطٍ للدّعم، التي من دونها كما قال سيُواصل لبنان الغرق، الدول الغربيّة كانت قد اشترطت وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكيّة، أن يُقدّم حزب الله تنازلات بسبب الجزء الأكبر من مسئوليته عن الفساد، وما وصل إليه الحال من تردّي اقتصادي.
الفيروس القاتل
الرئيس ماكرون لا يحلّ ضيفاً، حين مُراقبة مشهديّة زيارته، بقدر ما يُعيد التذكير بحقبة الانتداب الفرنسي للبنان، بل ليس عابرًا أن يختار أن يكون أوّل رئيس زائر لبلاد الأرز، رغم جائحة فيروس كورونا، وإمكانيّة تعرّضه للإصابة بالفيروس القاتل، تحت عُنوان التضامن مع لبنان المنكوب بعد انفجار المرفأ، يُمعن الرئيس الفرنسي بمشهد التضامن المُفترض، وأمام عدسات الكاميرات، يحرص على احتضان سيّدة لبنانيّة مُرتديًا الكِمامة، ويُؤكّد أنّ بلاده تقف إلى جانب الشعب اللبناني.
ومن الجميّزة قالها الرئيس الفرنسي صراحةً: لست هنا لتقديم الدعم للحكومة أو للنظام بل جئت لمساعدة الشعب اللبناني، أنا هنا لأعبّر عن تضامني معكم وجئت لأوفّر لكم الطعام والأدوية، وجئت لأبحث بموضوع الفساد وأريد مثلكم شعباً حُرّاً ومُستقلّاً، بل ويذهب بعيدًا حين يتحدّث ماكرون عن “ميثاق جديد”، وذلك حين طالبه أحد اللبنانيين بدعمهم ضدّ الطبقة السياسيّة، وهو ما يطرح تساؤلات حول طبيعة وشكل هذا الميثاق، وحقيقة ما يُحضّر للبنان، فبعد الانفجار الغامض، ليس كما قبله، يقول مراقبون.
ورأى كُتّاب أن زيارة ماكرون الأولى عقب انفجار المرفأ كانت محط ترحيب شعبي، إلا أنه في الثانية بدا وكأنه "مشارك في تكريس النظام القديم". وتحدث آخرون أن لبنان يعيش مرحلة "مخاض أليم" وأنه "ليس بالضرورة أن ينتج عنه مولود سليم".
ورأى فريق ثالث أن زيارة ماكرون "تشتري وقتا" لإيران وحزب الله تحتاجه طهران بقوة بسبب العقوبات الأمريكية، وتساءلوا هل ستكون حكومة دياب "الحكومة المعجزة التي ترضي الأمريكيين والعرب والفرنسيين والإيرانيين في آن معا؟".
وكان ماكرون قد كثف، في الأيام الماضية، اتصالاته بمعظم الزعامات السياسية اللبنانية وكذلك رعاتهم الإقليميين، وخاصة الإيرانيين والسعوديين، واقترح على الجميع خارطة طريق، تتضمن تعيين حكومة، تتولى إجراءات الطوارئ الضرورية وإطلاق الإصلاحات الأساسية لإلغاء حظر المساعدات الدولية من أجل الخروج من الأزمة وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة في غضون عام.
وشدد ماكرون، قبيل توجهه إلى بيروت، على ضرورة تمرير قانون مكافحة الفساد وإصلاح العقود العامة وإصلاح قطاع الطاقة والنظام المصرفي، محذراً من مغبة أنّ عدم فعل ذلك سيقود إلى انهيار الاقتصاد اللبناني، وقيادة البلاد إلى حرب أهلية.