ماذا كنتم تتوقعون من "طفل المرور"، ابن القاضى، وقد نشأ فى زمن الانقلاب وفى "شبه دولة"؟ إن صدفة نشر "فيديوهاته" على مواقع التواصل الاجتماعى هى فقط ما مثَّل مفاجأة للبعض، أما الواقع فهو طافح بمثل هذه الممارسات المخزية.
هل نسيتم ما قاله رئيس نادى القضاة السابق واصفًا زملاءه بأنهم السادة ونحن العبيد؟ وهل نسيتم ما فعلته "سيدة المحكمة"، رئيس النيابة الإدارية، مع ضابط الشرطة؟ أم نسيتم السيارات التى تملأ شوارعنا وقد خُلعت لوحاتها أو رُكب فيها الزجاج المحظور وارتكبت فيها الأعمال المخلة؟
إن ما فعله "طفل المرور" (مواليد 2007) لم يأته من فراغ، بل هو نتاج تربية ومعايشة أفضت إلى الاستعلاء على الخلق، والتنمر بأفراد السلطة، والتهديد بمركز الوالد. فى أحد "الفيديوهات" يسخر الولد من أحد أمناء الشرطة فيناديه: (أنت يا بنى! بتعمل إيه، تعال هنا)، وهذه الكلمة تحديدًا سمعها من والده أو من أحد كبار العائلة التى قيل إن جلّهم يعملون فى القضاء والشرطة، وهى كلمة معتادة عند هذا الصنف من الموظفين "الكبار". وإن الجرأة التى يتحدث بها الطفل "حريقة" -كما يناديه أصدقاؤه- وترقى إلى درجة البلطجة هى أيضًا نتاج بثه أنه "فوق القانون"، وأنه "سليل السلطة"؛ ما دفعه إلى تحدى الجميع بـ"الفيديو" الذى نشره عقب الإفراج عنه فى المرة الأولى بقوله: "احنا نحبس منتحبسش"، وبقوله لأمين شرطة آخر فى "فيديو" ثالث: (أنا كفيل أديك علقة أموتك فيها).
فى ظل تغوُّل السلطة السياسية الفاسدة على مؤسسات القضاء، وعدم استقلالها انزوت جهات الرقابة والتفتيش القضائى، فطفت –من ثم- على السطح مخالفات فردية وجماعية شوهت قداسة هذه المهنة، التى لا شك تنصلح الشعوب بصلاحها وتفسد بفسادها. ولعل التشديد على عدم نقد القضاة واتهام من يفعل ذلك بـ"إهانة القضاء" أمر قُصد به إغراق هذه المؤسسات فى الفساد العام وتصويرها للشعب على أنها جزء من السلطة الحاكمة، وهذا أمر خطير يستدعى تحرير المصطلحات، كما يستدعى الشفافية مع مثل هذه الحوادث التى تلطخ ثوب العدالة التى أساء إليها البعض حتى صار لفظ "شامخ" الذى عُرفت به يطلق عليها من باب السخرية أو بتغيير ألفاظه ليحتمل معانى أخرى قبيحة.
وبمناسبة الشفافية؛ يتحدث الناس عن ألغاز فى قضية "طفل المعادى" منها إخلاء سبيله فى المرة الأولى فى حين تغريم مالك السيارة على ذمة قضية، وإيداعه فى المرة الثانية مؤسسة إصلاحية فى حين معاقبة رفاقه الأربعة، ويتحدثون عن عقد صورى "غير قانونى" تم تحريره بتاريخ قديم لقريب القاضى كى لا يرد اسم الأب فى القضية، ويتحدثون عن تلقين الطفل "سيناريو" كاذب قاله للنيابة وأذاعه فيما بعد على مواقع التواصل، ويتحدثون عن عدم تنفيذ القاضى لقرار النيابة التى ألزمته بحسن رعاية الطفل وتقويم سلوكه؛ حيث أطلقه ليسجل وأصدقاؤه المراهقون –بمجرد خروجه- "فيديو" مليئًا بالألفاظ النابية والتطاول على المجتمع، ويتحدثون عن عدم إجراء تحقيق مع القاضى نفسه وأن النيابة اكتفت منه بتقديم مذكرة يدافع فيها عن نجله، وقيل: لو كان الأب مواطنًا عاديًّا لفُعل به كذا وكذا.
إن الفوضى السياسية التى نعيشها كرَّست التغاضى عن أخطاء وخطايا من بيدهم سلطة العقاب والتنفيذ، من الضباط والقضاة والمسئولين الكبار؛ مجاملة لهم على دعمهم لهذه السلطة غير الشرعية، وفى سبيل ذلك تم الدوس على القانون، وتم التنكر لما عُرف بــ"أخلاقيات القضاة" التى لا تتسامح مع القاضى حتى فيما يخص سلوك أفراد أسرته، وقد حُرِّمتْ عليهم أنشطة اجتماعية بعينها من أجل المحافظة على هيبتهم، وإذا كان ثمة انخراط فى المجتمع فيكون فى إطار قواعد وأعراف معينة؛ لضمان أن يكون القاضى مستقيم السيرة، موفور الكرامة، مصون السمعة بعيد عن كل ما يشينها.
وهناك العديد من الشواهد الآن تدل على تحالف السلطة مع بعض القضاة على نسف هذه المواثيق الأخلاقية واستغلال النفوذ، والجهر بالصفة القضائية وتهديد الآخرين. من هذه الشواهد مثلًا أن الشارع الرئيسى بمنطقة "وادى حوف" بحى حلوان ظل مغلقًا منذ عام 2013 وحتى الشهر الماضى، أى لمدة سبع سنوات؛ لأن قاضيًا كبيرًا يقيم فيه! مع ما يعانيه الناس من جراء ذلك، بل تم التأكيد فى وقت سابق أنه رحل من المكان، ورغم ذلك بقى الشارع مغلقًا تنفيذًا لرغبته. إن مثل هذه السلوكيات حوَّلت القضاء من حصن للعدالة إلى أداة للبطش والتنكيل خارج القانون، وأدخلت القضاة فعليًّا إلى طبقة النبلاء التى عرفتها "إسبرطة" القديمة؛ ما يفرض على عموم الشعب "الطبقة الدنيا" خدمة وتليبة أغراض هؤلاء الأسياد، الذين يحق لهم التعدى على الآخرين وانتهاكهم دون أدنى شكوى أو تذمر.