116 عاما على مولده.. عمر التلمساني مرشد الإخوان الذى أعاد الجماعة للساحة المحلية والعالمية

- ‎فيتقارير

 التقى عمر التلمساني عام 1933 بحسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في منزله، في حارة عبد الله بك في شارع اليكنية في حي الخيامية، وبايعه، وأصبح من الإخوان المسلمين وكان أول محامٍ يحرر توكيلا من الجماعة التي قبض عليهم للدفاع عنهم في المحاكم المصرية. وتولى التلمساني منصب المرشد العام الثالث سنة 1974 خلفا لحسن الهضيبي، وقد كان له دور مهم في استقرار جماعة الإخوان المسلمين في مصر. ودخل التلمساني السجن ثلاث مرات أعوام 1954 وأمضى نحو عشرين عاما بالسجن وخرج عام 1974، ثم أعيد عتقاله في 1981 وثالثة في 1984.

كاتب موهوب

وأثرى التلمساني المكتبة العربية بعدد من المؤلفات اهتمت بالعلاقة بين الإسلام والحكم، والإسلام والمرأة، بالإضافة إلى قضايا أخرى. ومن أبرز كتبه: "شهيد المحراب"، و"حسن البنا الملهم الموهوب"، و"في رياض التوحيد"، و"الإسلام والحكومة الدينية"، و" يا حكام المسلمين.. ألا تخافون الله؟!".

واختير التلمساني مرشدًا للجماعة بعد وفاة المستشار الهضيبي ثم قبض عليه السادات مع المئات من مفكرين وأقباط وأساقفة وكتاب وغيرهم في عام 1981م ، وتوفي الأربعاء 13 من رمضان 1406هـ الموافق 22 مايو 1986، عن عُمْر يناهز 82 عامًا، ثم صُلِّي عليه بجامع "عمر مكرم" بالقاهرة، وكان تشييعه في موكب مهيب شارك فيه أكثر من ربع مليون نسمة وقيل نصف مليون من جماهير الشعب المصري فضلاً عن الوفود التي قدمت من خارج مصر.
وشارك الشباب دون العشرين، وفوق العشرين، الذين جاءوا من مدن مصر ، وقراها، يشاركون في الوداع، وهم يجرون حفاة الأقدام خلف السيارة التي تحمل الجثمان، ودموعهم تكسو وجوههم، يبكون فيه الداعية، وقد شاركت الحكومة في عزاء الإخوان المسلمين، وفي تشييع الجثمان، وحضر رئيس الوزراء، وشيخ الأزهر؛ وأعضاء مجمع البحوث الإسلامية ورئيس مجلس الشعب، وبعض قيادات منظمة التحرير الفلسطينية، ومجموعة كبيرة من الشخصيات المصرية والإسلامية إلى جانب حشد كبير من السلك الدبلوماسي، العربي والإسلامي ، وشارك وفد من الكنيسة المصرية برئاسة الأنبا غريغوريوس في تشييع الجثمان.

https://twitter.com/nabdikhwan/status/1323988370700214274

حديث الذكريات

وتحدث المرشد العام الثالث فيقول: "شاء الله أن أبدأ عملي في المحاماة كما أسلفت، استبعاداً لنفسي عن حيز الوظيفة التي لا أحتمل قيودها من الضغط على حرية الرأي ، وتحديد موارد الرزق ، فآثرت الحرية في العمل بحيث لا يكون لأحد عليّ من سلطان إلا مراقبة الله".
ويضيف: "أنا أمرؤ طبعت على الحياء حتى لأتساهل في كثير من حقوقي ، إلا أن مما أحمد الله عليه ، ولا حصر لفضله ، منحه إياي نعمة التجرد من الخوف ، فما خفت أحداً في حياتي إلا الله ، ولم يمنعني شيء من الجهر بكلمة الحق التي أؤمن بها ، مهما ثقل وقعها على الآخرين ، ومهما لقيت في سبيلها من العنت .."
ويتابع "أقولها هادئة رصينة مهذبة لا تؤذي الأسماع ولا تخدش المشاعر، وأتجنب كل عبارة أحس أنها لا ترضي محدثي أو مجادلي ، فأجد من الراحة النفسية في هذا الأسلوب ما لا أجده في سواه ، ولئن لم يكسبني الكثير من الأصدقاء ، فإني قد وفيت به شر الكثير من الأعداء ، هذا إلا أن ما نالني ورميت به منذ انتسابي إلى جماعة الإخوان المسلمين ، قد أصبح لي درعاً واقياً من الغضب والكراهية ، تنهال عليه النصال فيكسر بعضها بعضاً ..".

لقاء السادات
وكان لقاءه الشهير بالسادات وهو في نهاية عمره، ترجمه لهذا الإيمان وهذه المسؤولية التي رآها اعظم من الديكتاتور، وعرف جمهور الناس أسلوبه الحكيم من خلال حواره مع الرئيس أنور السادات ، يوم وجه هذا هجومه العنيف عليه وعلى الإخوان ، وساق إليهم أنواع التهم المفتراة ، وهو يظن أن خوف السلطة سيقطع لسانه عن الرد ، فإذا هو يخيب فأله ويلتف على مفترياته بالحجة الداحضة حتى يختمها بقوله : الشيء الطبيعي بإزاء أي ظلم يقع علي من أي جهة أن أشكو صاحبه إليك بصفتك المرجع الأعلى للشاكين بعد الله ، هأنذا أتلقى الظلم منك فلا أملك أن أشكوك إلا إلى الله .. وما كان أروعه رداً حطم سلاح الطغيان بأدب اللسان وقوة الإيمان، فإذا بالرئيس يلملم تهمه وينقلب مستعطفاً يسأل المظلوم إلغاء شكواه .. وكل ذلك على مرأى ومشهد من مئات الحاضرين لذلك الحفل ، وملايين المشاهدين عن طريق التلفاز.

الإخوان بين الزحام
ويقول الاستاذ التلمساني عن كيفية اختياره الإخوان "عاصرت الوفد وقيامه، وثورة 1919، وكانت بحق نابعة من مشاعر الشعب كله، وكان المنتظر أن تأتي بأبرك الثمرات لمصر بخاصة وللأمة الإسلامية بعامة ، لولا المؤامرات الشخصية ، والانفعالات الزعامية ، والألاعيب السياسية ، التي مزقت الشعب المصري فرقاً وأحزاباً وشيعاً واتجاهات ، وأطاحت بكل ما أمله المصريون.

ولقد نابني من ذلك بعض الرشاش خلال تعصبي الوفدي وأنا في مطالع الشباب، كذلك كان لانقلاب يونيو 1952، أثره الكبير ، إذ أيقظ المشاعر وحرك الرغبة في رؤية شرع الله مطبقاً في هذا البلد المسلم ، ومن أجل ذلك كان للإخوان المسلمين أكبر الأثر في نجاحه .. إذ كانوا يجوبون القطر كله في بث الدعوة الإسلامية ، وربط القلوب بعقيدتهم ، ونقد المفاسد والمظالم التي كانت تسود البلاد من قبل الاستعمار ، وطغيان الملكية وتهافت الأحزاب.

أما هيئة الضباط الأحرار فكانت تعمل في الخفاء ، ولم يكن يشعر بها أحد ، فلما أسفرت وجدت الطريق ممهداً والجو صالحاً ، والشعب على استعداد لتقبل الانقلاب ، ولكن لحكمة لا يعلمها إلا الله تغلب حب الزعامة والظهور ، فكان ما كان من انقلاب الضباط الأحرار على الإخوان المسلمين ، الذين أخلصوا لهم العون ، ومهدوا لهم السبيل ، ولا غرابة في ذلك ، فالسلطان ، كما يقال، عقيم لا يتورع أصحابه أن يتجاوزا من أجله كل شيء حتى أبسط مبادئ الأخلاق ..

وعن فتك عبد الناصر بـ الإخوان المسلمين استناداً إلى قوة الجيش والشرطة قال "والقوى التي كانت تكيد للجماعة ، وبخاصة الصليبية والصهيونية والملاحدة .. ولو أن ما أنزله عبد الناصر كان في غير الإخوان المسلمين لكانوا اليوم واحداً من أخبار التاريخ ترويه الأجيال للعظة والاعتبار ، أما الإخوان فقد زادتهم المحن إيماناً ، ومكنت لحب الله ودعوته في قلوبهم ، وقد ذهب الظالمون وأعوانهم وبقيت دعوة الله على الرغم من محاولات القوى المحاربة للإسلام ، لأن كلمة الله ثابتة لا يعتريها زوال..".

قالوا عن التلمساني
ولدى وفاتته رحمه الله، كتبت صحيفة (وطني) لسان حال الكنيسة المصرية في عددها الصادر في 25/5/1986م، عن عمر التلمساني فقالت: توفي إلى رحمة الله الأستاذ الكبير عمر التلمساني بعد معاناة مع المرض، فشق نعيه على عارفيه في مصر وفي العالم الإسلامي الذي يعرف كفاحه من أجل الدعوة التي حمل لواءها، وامتاز فيها بأصالة الرأي ورحابة الصدر واتساع الأفق وسماحة النفس، مما حبب إليه الجميع من إخوانه ومواطنيه، كما كانت علاقته بإخوانه الأقباط علاقة وثيقة عميقة تتسم بالتفاهم التام والحب والصداقة.
وقال محرر (جريدة الأهرام) في 13/6/1986م: "عرفته منذ نحو عشر سنوات، فلم أر فيه غير الصلاح والتقوى، كان هادئ الطبع، قوي الحجة، يدعو إلى الله على بصيرة من الأمر، ذلك هو المغفور له الداعية الإسلامي الكبير عمر التلمساني الذي فقد العالم الإسلامي بفقده رجلاً من أعز الرجال وأخلصهم لدعوة الحق.

وأضاف "فقدناه في وقت نحن أحوج ما يكون فيه إلى أمثاله من ذوى الرأي السديد، والفكر الرشيد الذين يعرفون جوهر الإسلام ويدعون إليه بالحكمة والموعظة الحسنة".
وقال الأستاذ يوسف ندا: ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا (23)﴾ (الأحزاب). إن المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين بكافة تنظيماتها المحلية والدولية والعالمية بعد سن قارب الاثنين والثمانين عامًا تكالبت عليه فيها أنياب الظلم فلم تنفذ إلى عمق توحيده للقادر على الرزق والأجل. عمل في صفوف الجماعة ثم في قيادتها ثم على رأسها ثلاثة وخمسين عامًا، قضى منهم في السجون والمعتقلات أكثر من عشرين عامًا منهم سبعة عشر عامًا متصلةً.

عاش بقلب كبير احتوى كل من أجهد نفسه في حرب معتقداته، وبخلق كريم أسبغه على الكريم وعلى اللئيم. وعاش عفيفًا ليس لغير الله عليه يد فكان جبلاً في الإباء والشمم. وفيًّا يذكر ويشكر الكبير والصغير على ما قدموه لغيره أو لدعوته.

عظيمًا في إيمانه وإسلامه، متواضعًا أفخر بالبساط في العيش والمظهر، أكبرته قلة زاده التي نافس بها الفقراء وطهارة القلب وبراءة الوجه وحياء الطفولة التي زينت هيئته وشيبته. عاش مجمعًا لكل من تفرق على فكر أو عمل أو دين أو مذهب عاش يدعو الناس حتى يكونوا مسلمين ويؤلف بين المسلمين حتى يكونوا إخوانًا.

وقال جابر رزق المتحدث الرسمي باسم جماعة الإخوان المسلمين: لقد اختار الله الشيخ عمر التلمساني ليقود الجماعة في سنوات ما بعد محنة السجون التي استمرت قرابة ربع قرن من الزمان، فاستطاع بحكمه الشيخ الذي حنكته السنون، وأنضجته السجون، وبميزات شخصه منحه الله إياها. وبأخلاق الإسلام التي صبغت سلوكه وتصرفاته.

أن يفرض “الوجود الفعلي” لجماعة الإخوان المسلمين على الواقع المصري، والعربي، والعالمي، فعلى مدى العقدين الأخيرين: عقد السبعينيات وعقد الثمانينيات كانت كلمات التلمساني، وتصريحاته وكتاباته تبرز في مقدمة وسائل الإعلام محليًّا وعربيًّا، وعالميًّا، والإذاعة ووكالات الأنباء من كل أنحاء العالم، وجاءه مندوبو الصحف حتى اعتبر عام 1980صاحب أكبر عدد من الأحاديث الصحفية والتليفزيونية على مستوى العالم.
يقول الأستاذ صالح أبو رقيق من الرعيل الأول وعضو مكتب الإرشاد: "كان فقيدنا الجليل طيب الله ثراه، سمحًا يذوب رقةً وحياءً، ويتألق تواضعه في عزة المؤمن، وكبرياء الواثق من نفسه والمقدر لمكانته، دون صلف أو تكبر، من الذين قال الله فيهم ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ﴾ (المائدة: من الآية 54).

ويضيف: لا أنساه في سجن الواحات الذي خصص أصلاً للإخوان المسلمين ومن بعد للشيوعيين، والجو قاري، وقارس البرد شديد الحر، مع العواصف الرملية الشديدة التي يدخل رملها في مسام الجلد، فتثير الأعصاب، وتقلق الراحة وتقض المضاجع وتزعج النفوس، ظروف غاية في الصعوبة لا يتحملها إلا أولو العزم، كان رحمه الله يقابلها بابتسامة الرضا العذبة، وجلد المؤمن القوي، الواثق من أن ابتلاء الله لعبده يحقق أسمى الغايات لكل مؤمن، يكفر عن سيئاته ويكون في ميزانه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. ولسان حاله يقول قولة الصوفيين: “كل ما يأتي به المحبوب محبوب”.
وقال الشيخ عبد البديع صقر أحد الرعيل الأول في حقه: "عرفته محاميًا ناشئًا يواظب على محاضرات الأستاذ حسن البنا في دار العتبة الخضراء سنة 1936م.. ثم عضوًا في الهيئة التأسيسية للجماعة ، ثم عضوًا في مكتب الإرشاد العام.

كان رجلاً جميلَ الخلقة، متكاملَ الهيئة، تامَ الأناقة وكان أمثالنا من “المنتوفين” يقولون عنه وعن أمثاله من الوجهاء "مثل محمود أبو السعود وحسين عبد الرزاق ومحمد محمود الصواف ومصطفى السباعي" يقولون: "هل هذه الأشكال تصلح للعمل الإسلامي؟ أو تقوى على“البهدلة” في سبيل الدعوة؟.. ولكن محيط الدعوة كان سوقًا كبيرًا يتسع “للمشطوفين” و “المنتوفين” على حد سواء".
قال الشيخ الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد أستاذ التفسير بجامعة الأزهر الشريف: " .. كان الرجل رحمه الله نفحة إلهية هادية، وهادئة. وكان نسمةً طيبةً. مطمئنة إلى جنب الله تعالى، اطمئنانًا راسخًا عبرت به رحلة هذه الحياة الصاخبة عبور الطيف المنير، حتى خلصت إلى ربها راضية مرضية بإذنه وفضله تعالى.

حريص على الدعوة

هل نذكره رحمه الله وهو في السجن المتطاول تعلوه بسمته، وأمله الدائم في الله رب العالمين؟ هل نذكره وهو يذوب حرصًا على هذه الدعوة، ونصحًا لهذه الأمة، وإخلاصًا لهذه الجماعة المؤمنة، التي سلكت طريق الأنبياء عليهم السلام، ولا بد أن تشرب من نفس الكأس، وتخضع لسنة الله الدعوات وأصحابها؟ وأضاف: "إننا لنذكره رحمه الله وهو يخط كلماته الندية من المعتقل، إلى الإخوان في السجون، تبشرهم بنصر الله وعظيم الأجر، وجميل التفويض. أن ألحق بإمامي الشهيد حسن البنا وقد وفيت بيعته".

وقال الشيخ محمد الغزالي عليه رحمة الله: "كنت في شبابي أرى الأستاذ عمر التلمساني يتردد على الأستاذ المرشد العام، ويتحدث معه في شئون الدعوة ، ويتزود منه بشتى التوجيهات: كان يومئذ يشتغل بالمحاماة، وله مكتبه في بلدة “شبين القناطر” وكان إلى جانب ذلك عضوًا في مكتب الإرشاد.

السمة العامة التي كنا نعرفه بها: وجهه البشوش وأدبه الجم وصوته الهادئ، وظاهر من حالته أنه كان على جانب من اليسار والسعة لا يسلكه في عداد المترفين، وإنما يخصه من متاعب الكدح ومعاناة التطواف هنا وهناك، ويحفظ عليه حياءه الجم.

وقد حمل الرجل في شبابه أعباء الدعوة الإسلامية في غربتها، ورأيته يومًا ينصرف من مكتب أستاذنا حسن البنا بعد لقاء لم أتبين موضوعه، ورأيت بصر الأستاذ المرشد يتبعه وهو يولى بعاطفة ناطقة غامرة، وحب مكين عميق، فأدركت أن للأستاذ عمر مكانة لم يفصح عنها حديث".

وقال الأستاذ أنور الجندي الكاتب والمفكر الإسلامي: "حياة عريضة خصيبة، كانت منذ يومها الأول إلى يومها الأخير خالصة لله تبارك وتعالى.. فقد كان “عمر التلمساني” نموذجًا كريمًا، وأسوةً حسنةً وقدوةً صالحةً يمكن أن تقدم للشباب المسلم في كل أنحاء الأرض لتصور له كيف يمكن أن يكون المسلم داعيةً إلى الله موقنًا بقوله تبارك وتعالى ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)﴾ (الأنعام).