المتابع لإجراءات الحكومة الفرنسية إزاء المسلمين وما نتج عنها من تطورات فى جانب المقاطعة أو غيره، يدرك أن كل هذه الإجراءات لغرض وحيد؛ هو إخضاع المسلمين فى فرنسا للنظام العلمانى، على حساب معتقدهم، بتطويع الإسلام وفق اختيارات الدولة السياسية والاجتماعية، ما صار يُعرف بـ"الإسلام الفرنسى".
والفرنسيون جادون فى هذا الأمر منذ سنوات؛ أى مجىء "ماكرون"، هم يعتبرون الإسلام تهديدًا لعلمانيتهم التاريخية ونسيجهم الاجتماعى والثقافى، فى ظل تأثير المسلمين المتنامى فى المجتمع الفرنسى وفى ظل تمدد الإسلام، والخوف –من ثَمَّ- من بزوغ مجتمع مسلم مواز لمجتمعهم القومى.
إنهم يريدون "هيكلة الإسلام"، واستنساخه ليتوافق مع أيدولوجيتهم، ووقف التأثيرات الأجنبية على المؤسسات الإسلامية فى فرنسا، فوضعوا عام 2018 ما أسموه "إستراتيجية الإصلاح فى الإسلام"؛ بهدف –حسب تعبيرهم-: (مكافحة الانعزالية الإسلامية، مواجهة انتهاكات قانون المساواة بين الفتيان والفتيات، منع تخصيص أوقات للصلوات فى النوادى والمدارس وغيرها، منع ممارسات إسلامية تمنع الاختلاط مثل الاستحمام المنفصل وخلافه إلخ)، وعلى إثر ذلك عين "ماكرون"، عام 2018، أحد العلمانيين العرب مستشارًا له لشئون المسلمين، ثم فى عام 2019 دشن: "الجمعية الوطنية للإسلام فى فرنسا"؛ لتدريب وعاظ ومعلمين يتحدثون الفرنسية، لمنع (300) إمام يدخلون فرنسا سنويًّا من تركيا والمغرب والجزائر.
و"الإسلام الفرنسى" يكاد يكون موضة الآن فى بلاد الشرق والغرب، وقد ساروا على سَنَن حكام العرب الذين يتبعون إسلامًا خاصًّا مختلفًا عن إسلام الشعوب المأخوذ عن سيد الخلق محمد ﷺ، حتى صرنا نسمع فى بلادنا عن (الإسلام السياسى، الوسطى الجميل، المعتدل، الاشتراكى، الرسمى إلخ)؛ ففى الصين مثلًا هناك خطة كخطة فرنسا، تستغرق خمس سنوات؛ لـ(إضفاء الطابع الصينى على الدين الإسلامى، ومواءمة الإسلام للأعراف الصينية؛ ليتماشى مع أيدولوجية الحزب الشيوعى) فأُخضعتْ لذلك جميع المنظمات والأنشطة الإسلامية لرعاية الدولة، ومُنع أى شكل من أشكال التأثير الأجنبى.
وفى سبيل تنفيذ خطط هذه الدول فى إنشاء "إسلام قومى" فإنها تضرب بحقوق الإنسان وأعرافها المحلية والمجتمع الدولى عُرض الحائط، وانظر إن شئت ما تفعله فرنسا مع المسلمين الآن، وارجع لأخبار المسلمين فى الصين لتدرك كم الاضطهاد الواقع عليهم من قبل السلطات الشيوعية، من حملات قمع واسعة، وإزالة أى أثر يدل على الإسلام فى مقاطعاتهم مثل إلغاء قباب المساجد واستبدالها بأخرى صينية، ومنع أطعمة "الحلال" ومنع صيام رمضان، والرقابة المباشرة على ممارسة الصلاة ومنع الشباب من أدائها. كل هذا بغرض تغيير الهوية الإسلامية ودمج المسلمين فى المجتمع الصينى تمهيدًا لإذابتهم تمامًا وإن استغرق ذلك جيلين أو ثلاثة.
وما تجرأ هؤلاء على إخوتنا إلا بعد أن رأوا حكامنا، أبناء جلدتنا، يفعلون ذلك، فأينما سرت فى بلاد العرب، وجدت: حصرًا للإسلام فى المساجد، ومعاداة للدعاة الصادقين، ومحاربة الجماعات الإصلاحية، ومحاولات لقطع ارتباط الشعوب بجذور الدين، والدعوة إلى ما يزعمونه "الدين المتسامح" -وهو فى الحقيقة دين رخو منصاع يقنن الفساد والاستبداد ويكرِّس التبعية- وإخضاع المؤسسات الدينية لتوجهات تلك الأنظمة، وإفساد دور الفتوى، ولا مانع من "إسلام مائع" يحتفل الرسميون بمناسباته، ويشجع على نشر الأدعية والأذكار الروحية، كما يشجع الطرق الصوفية ليحيى بها البدع وينشر الخرافة. أى يريدونه "فلكلورًا" شعبيًّا لا أثر له فى حياة الناس. وأخيرًا جاءوا بـ"المدخلية" ليبجِّلوا بها الحاكم وليمنعوا الثورة على وكلاء الغرب الفاسدين، فأحاطوهم بهالة من القداسة حتى أفتوا بعدم الخروج على أحدهم ولو جلد الظهر وسلب المال، ولا يجوز معاتبته ولو زنى وشرب الخمر على الهواء.
والإسلام لا يعرف كل هذه التسميات، فهو واحد صحيح، كلٌّ لا يتجزأ، وكتاب الله نزل تبيانًا لكل شىء، ما ترك شاردة ولا واردة، ولا صغيرة ولا كبيرة، ما فرط الله فيه من شىء. وشعوبنا الإسلامية، بفضل الله ما زالت مستمسكة بهذا الكتاب، ودائمًا لسان حالها يرد على هذه الترهات فيقمعها فى مهدها، ولو نجحوا مرة لانتهى أمر هذه الأمة منذ زمن ولم تكن على هذه الدرجة من الوعى حتى ردت إلى "ماكرون" الصاع صاعين.
لقد أنذر الله –تعالى- نبيه ﷺ من أن يخدعه أمثال هؤلاء عما أنزله عليه فقال: (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ) [المائدة: 48]، (وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ..) [المائدة: 49]، ولقد كان رد النبى ﷺ حاسمًا يوم عرض عليه المشركون "إسلامًا وسطًا"، يعبدون إلهه سنة فى مقابل أن يعبد آلهتهم سنة مثلها، كانوا يهدفون به زحزحته عن وحى السماء فرد عليهم ﷺ بقول الله عز وجل: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ…) [الزمر: 64]؛ ذلك أن الإسلام هو الذى أكمل الله به الدين وأتم به النعمة على العالمين، فلا رسالة بعده ولا دين سواه، ولا أثر من بعدُ لعبيد جهال يريدون التعديل فيه والزيادة عليه.. فلا يزال عباد الله المؤمنين مستمسكين بالكتاب العزيز، يرددون: (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153]، (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف: 108].