مصطفى اللداوي يكتب: الصهاينة يشترون بالتطبيع الوهم ويخسرون بالسلام الأمل

- ‎فيمقالات

تتعرض اتفاقات السلام الأخيرة الموقعة بين الكيان الصهيوني وعدد من الدول العربية، بما فيها اتفاقية "أبراهام" التي باتت الأشهر والأكثر أهمية، لانتقادات شديدة ومعارضة واسعة من أطراف إسرائيلية عديدة، رغم أنها اتفاقات إستراتيجية، وإنجازات مهمة في المشروع الصهيوني الممتد لأكثر من قرن ونصف مضيا، إلا أن مجموعة من المفكرين الإسرائيليين ومعهم فريق غير بسيط من مؤيديهم الأمريكيين، يعارضون هذه الاتفاقات وينتقدونها، ويرون أنها اتفاقات ضعيفة ومهزوزة، ولا ترتكز إلى قواعد ثابتة وأرضية صلبة، ولا توجد ضمانات لاستمرارها، أو تأكيدات لصمودها وبقائها.

فشعوب هذه الدول بلا استثناء تعارض الاتفاقات الموقعة، وترفض الاعتراف بإسرائيل، وتحرم التطبيع معها، بل وتدعم المقاومة الفلسطينية، وتساندها وتساهم في ثباتها وصمودها، وقد أقدمت أنظمتها الحاكمة على الاعتراف بالكيان الصهيوني والتطبيع معه لحاجة لها ومصلحة عندها، فأغلبها تواجه انتقادات واسعة من شعوبها، وتلقى عدم قبول منها، وتتعرض لاضطرابات داخلية تقلقها، وتعاني من حالة عدم استقرار حكمها مما يهدد باحتمالية سقوطها، وبعضها يواجه شعبه بالحديد والنار، ويقمع حراك أبنائه بالقوة والعنف، ويواجه مطالبهم بالرفض والإهمال، فضلا عن التشويه والاتهام والاعتقال والمحاكمة.

ومن جانب آخر فإن هذه الدول الموقعة لاتفاقات السلام، لا تشكو من احتلال إسرائيل لجزء من أرضها، وهي لا تجاورها ولا تشترك معها في حدود، ولا تقاتلها ولا تشتبك معها، ولا يوجد لديها معتقلون في سجونها، ولا تعاني من أي قضايا عالقة معها، وبالتالي فإن الاتفاقات معها ضعيفة ولا ترتكز إلى قواعد صلبة وأسس متينة، إذ لا تشبه تلك التي وقعت مع مصر في كامب ديفيد، أو مع الأردن في وادي عربة، حيث جرت بموجبهما انسحابات عسكرية إسرائيلية من أراضي مصرية وأردنية محتلة، واستعادت الدولتان سيادتهما عليها، فكان انسحابه من أرضهما المحتلة ثمنا للاعتراف بها، وأساسا للسلام والتطبيع معها، وبهذه الانجازات تمكنت حكومات البلدين ولو صوريا وشكليا، من تمرير اتفاقهما والدفاع عنهما، ورغم معارضتهما الشعبية الكبيرة فقد صمدا لأكثر من ثلاثة عقود.

بينما الاتفاقات الجديدة الموقعة مع الدول العربية، فهي على أهميتها لا تستند إلى قواعد صلبة، ولا إلى أسس متينة، تمكن حكوماتها من الدفاع عنها، وليس أصلب من الأرض المحررة واستعادة الحقوق الوطنية وسيلة للدفاع عن الاتفاقات، أما الأثمان التي تلقتها بعض الدول كالاعتراف الأمريكي على جزء من ترابها الوطني المختلف عليه، أو شطب اسمها من قوائم الإرهاب، أو رفع الحصار المفروض عليها، أو التعهد بحماية أنظمتها والدفاع عن عروشها، فإنها مكتسبات غير شعبية، بل هي منافع سلطوية تخدم الأنظمة ولا تعود بالنفع على الشعوب، التي قد تضاعف مع الأيام من حجم عدائها لإسرائيل ونقمتها عليها.

لا ينكر الإسرائيليون جدوى الاتفاقات الموقعة وأهميتها الاقتصادية بالنسبة لهم، وآثارها النفسية والمعنوية على شعبهم، ودورها في تحسين صورتهم ودمج كيانهم في المنطقة، والاعتراف به مكونا أساسيا فيها، يحظى بالشرعية والقبول، ويتمتع بالاعتراف والاحترام، فضلا عن تداعياتها المباشرة على القضية الفلسطينية، التي قد تدفع الفلسطينيين يأسا وقنوطا وإحساسا بالعزلة والضعف، للقبول بالحلول المطروحة وعدم رفضها، وإلا فإن أحداً لن يقف معهم ويؤيدهم، أو يدعمهم ويساندهم.

إلا أنهم في الوقت الذي لا ينكرون فيه محاسن الاتفاقات الموقعة، فإنهم لا يرون لها أهمية تذكر ما لم يتم توظيفها في خدمة مسار حل القضية الفلسطينية، واستخدامها في تطويع الفلسطينيين وإقناعهم بالقبول بالحلول المطروحة، إذ لا سلام يستمتعون به ما لم يكن مع الفلسطينيين أنفسهم، ولا أمن يتوقعونه في المنطقة ما لم يكن الفلسطينيون جزءا منه وأساسا فيه، ولا استقرار لكيانهم أو تحسين لصورتهم ما لم يشارك الفلسطينيون فيه، فهم الأقدر على إعادة رسم الصورة، ورفع الشبهات وإزالة الاتهامات عن كيانهم، والمجتمع الدولي يصغي إليهم ويؤمن بعدالة قضيتهم، ويتطلع إلى التوصل إلى اتفاق ينهي معاناتهم، ويحقق أحلامهم ويلبي رغباتهم وطموحاتهم في دولة مستقلة ووطن حر.

يشعر الإسرائيليون بقلقٍ شديد من تبعات هذه الاتفاقات ومن سرابهما الزائف، ويخشون من إمكانية انقلابها عليهم وانعكاسها السلبي على أمنهم واستقرارهم، فهي قد تشعر الفلسطينيين بالوحدة والعزلة، والخذلان والإهمال، وقد تخلق فيهم يأسا وقنوطا، يدفعهم نحو تطرف أكبر ومقاومة أشد، ويساعدهم في ذلك رفض الشعوب العربية للاتفاقات الموقعة مع حكوماتهم، وقد بدا هذا الأمر جليا من خلال اتفاق القوى الفلسطينية سلطة ومعارضة، حيث كان للاتفاقات الموقعة دور في لقائهم واجتماعهم، وفي اتفاقهم ووحدتهم،

وهو ما قد يؤسس لمرحلة من الصراع جديدة، يكون الإسرائيليون فيها هم الأكثر ضررا وخسارة.

يقول الإسرائيليون إن أساس المشكلة في المنطقة كلها هي القضية الفلسطينية، فهي سبب الأزمة وعنوان الصراع، والفلسطينيون هم أصحاب القضية وسكان الأرض، وهم الذين تلتقي عليهم الشعوب العربية وتتفق، وعلى المجتمع الإسرائيلي أن يدرك أن مشكلته هي مع الفلسطينيين لا مع غيرهم، وأن أزمته الحقيقية معهم لا مع المغرب والبحرين، والسودان ودولة الإمارات، كما لن تكون مع غيرهم.

يؤمن هذا الفريق أن أزمة كيانهم هي مع الشعب الفلسطيني كله، في الشتات واللجوء وفي مناطق السلطة، ومع هذا الجيل ومع الأجيال اللاحقة، فهم وحدهم من يملكون مفاتيح الاستقرار في المنطقة، وما لم يرضوا ويقبلوا، بقناعة ودون قهر، فإن السلام لن يستقر والأمن لن يكون، كما لا ينوب عنهم أحد، ولا يتحدث باسمهم نظام ما لم يفوضوه ويوكلوه، وهو ما لم يحدث، وما لا يتوقع أن يكون، وسيورثون أجيالهم يقينهم وحقيقة موقفهم، ولهذا حذاري من شراء الوهم وتصديق السراب، وإلا فإن الحصاد وهم مثله وندامة تشبهه.