يبيعون الوطن وهم يهتفون بحياته!

- ‎فيمقالات

أمرٌ عجيبٌ أن ترى من يهتفون للوطن بالحياة ويعلنون افتداءه بالروح والدم هم أول من يبيعونه بثمن بخس، بل يغتالونه مع سبق الإصرار والترصد ويهيلون عليه التراب. وقد حملهم ذلك الزيف إلى التمويه والخداع والكذب المفضوح. ألا ترى أنهم استحوذوا على كل شىء حتى صار «الوطن لهم والمواطنة للشعب»، وفى سبيل ذلك تنازلوا وفرَّطوا، وقتلوا وحرقوا وسجنوا، وهتكوا الأعراض وصادروا الأموال؟

إنها «الوطنية الزائفة» التى تعتمد الأغانى والأناشيد والمسلسلات والأفلام وسائل لنهضة البلاد، وتجعل «الانتماء» حكرًا على من يردد تلك الأغانى والشعارات. إن «الوطنية الحقيقية» أفعال وليست أقوالًا، وقد عهدنا فى أصحابها التعب لأجل البلاد وليس نهبها كما فعل هؤلاء، وعهدناهم يقدمون ما يصلحها ويصلح أبناءها، ويسعون لأجل خلق فرص نهضتها، ويفشون على أرضها السكينة والسلام، ويدرءون عنها السوء، ويحافظون على أمنها القومى، وينمُّون اقتصادها.. كل ذلك استشعارًا بواجباتهم ومسئولياتهم تجاه وطنهم.

وليس من حق أحد أن يزايد على «وطنية» الآخرين ويدّعيها لنفسه، ووصم مخالفيه بالخيانة لأنهم يعارضون نظامه السياسى؛ ذلك أن حب الوطن قد فُطر عليه الخلق، فأوطان الناس قطعٌ من أكبادهم، وحبها أمرٌ جبلىٌّ، والوطن هو مهد الصبا، ومدرج الخطى، ومرتع الطفولة، وملجأ الكهولة، وموطن الآباء والأجداد، والأبناء والأحفاد.. فكيف لا يحبه أبناؤه على اختلاف توجهاتهم.

وماذا قدمت لنا تلك الشعارات الزائفة سوى الانقسام الوطنى وتفرُّق المواطنين شيعًا وأحزابًا، وقد هيأت أجواء الفتنة، وخيبت رجاء الطامعين فى الإصلاح بعدما تقدمت النكرات وتوارت الكفايات.

إننا لم نحصد بعد عقود من رفع تلك الشعارات سوى الهزائم المنكرة، والتراجع الحضارى المخيف، والانشغال بقضايا ضررها أكثر من نفعها، من ثم سهل على الذين غلبوا على أمرنا إلهاؤنا بالتافه الحقير.

لقد هلك «زعماء!» تولوا كبر هذا الأمر، مخلفين وراءهم تركة من الفقر والجهل والمرض، فما اتعظ كثيرون بما جرى، وفى حين كان يقول أحدهم «ارفع رأسك يا أخى» كان يقصف رءوس مواطنيه ويشبعهم إذلالًا فى سجونه المظلمة، وفى حين كان يقول «يمكننا الامتناع عن أكل وجبة أو اثنتين -نكاية فى العدو» كان يتنعم وبنيه فى قصوره العديدة، وفى حين مات وقد ترك الشعب «على الحديدة» كانت عائلته وأنسباؤه من ذوى الملايين وأصحاب الحظوة.

إذًا هو «التوظيف الحرام» لتلك الشعارات لصالح تلك الأنظمة ليظهروا بمظهر يخالف حقيقتهم، كأنهم على الحق وخصومهم على الباطل. وإذا كانت «الحيلة» قد انطلت على أجيال سابقة لكثرة الإلحاح الدعائى ولضيق الفضاء الإعلامى ولم تكن الجرائم فى حق الشعب قد وصلت إلى هذا الحد الذى لا يخفى على أحد -فإن الجيل الحالى قد استوعب الدرس وأخذ العبرة، فبات يفضح المتاجرين بالوطن، المزورين لمعانى المواطنة السامية.. وإن هى إلا مدة يسيرة من عمر الشعوب فلا تجد لهؤلاء الأدعياء أثرًا.