أحوال الصحافة والصحفيين!

- ‎فيمقالات

كان من المقرر عقد انتخابات نقابة الصحفيين الجمعة (19 مارس)، لكن مشيئة «السامسونج» فوق مشيئة «المجلس الموقر»؛ لما رأوه من غليان وسط الجماعة الصحفية وما يترتب على ذلك من استبدال النقيب ونصف المجلس الحالى، فكان التأجيل فى الساعات الأخيرة لأسبوعين بسبب واهٍ حتى يتدبروا أمرهم، ومن المتوقع أن يمتد هذا التأجيل لأطول فترة ممكنة، خصوصًا أننا مقبلون على «موجة ثالثة» من الوباء -كما سمعنا- ربما تكون المبرر لهذا التأجيل الطويل.

إنه -ولأول مرة- نرى هذا الإجماع بين الأعضاء على حتمية تغيير النقيب ومجلسه الذى يوالى أغلبه النظام، بعدما تحولت نقابة الصحفيين، إحدى قلاع الرأى فيما مضى، إلى خرابة وقد ضج الجميع بالشكوى من انعدام الحريات على المستويين العام والمهنى، ومن الحال المعيشى المتدنى الذى وصل إليه الصحفى، ومحاولات تدجين النقابة للأبد بتعديل قانونها عن طريق ما يُعرف بـ«مجلس النواب».

ويتحمل المجلس الحالى الجزء الأكبر من هذا الانهيار، وقد عُرف بـ«مجلس السقالات»؛ لقيامه بغلق سلم النقابة الرئيس، المطل على شارع عبد الخالق ثروت، بشكل تام ودائم بهذه «السقالات»؛ لمنع أى اجتماع أو تجمهر، وقد اشتهرت هذه السلالم منذ تشييد المبنى بأنها ملتقى الأحرار ومنطلق المظاهرات والمسيرات. والأمر نفسه داخل المبنى؛ إذ بحجة «كورونا» رُفعت جميع الكراسى والطاولات من طوابق وأرجاء المبنى كافة، والهدف واضح: منع التجمعات والمناقشات ومنع أى نواة مطالبة بالحريات أو التغيير يكون منشؤها مبنى النقابة.

والكلام يطول فى محاولات النقيب الحالى وأنصاره أعضاء المجلس لتفتيت النقابة وضمها إلى باقى النقابات المخروسة، فالرجل غير متفرغ لموقعه كنقيب، ولا يعتنى بزملائه أو يرد على اتصالات الحالات الحرجة، ما أيأس الأعضاء فيه ولما يأت بإنجاز واحد، بالعكس كانت هناك محاولات لإفشال مشروع العلاج، وهو المشروع الوحيد الممتد نجاحه منذ التسعينيات، أرادوا مؤخرًا تسليمه لإحدى الشركات لولا معارضة الأعضاء، ثم حاولوا مرة أخرى إجهاضه بتسديد معاملاته المادية عن طريق التطبيقات الفورية، وقد اعترض الزملاء مرة أخرى فأوقفوا هذا الإجراء.

رأينا فيما مضى كيف كانت الانتخابات فرصة للحصول على مكاسب للصحفيين، ففى كل مرة كان هناك مرشحان رئيسان: مرشح الخدمات (حكومى)، ومرشح الحريات (ناصرى أو شيوعى غالبًا)، فكان هذا المشهد يدفع الحكومة إلى دعم مرشحها بكل ما تملك، وكان هذا الدعم يصل إلى الحريات، فى محاولة لإحراج المنافس (وقف إبراهيم نافع، رحمه الله، معى وقفة لا أنساها له، بدءًا من لحظة القبض علىَّ من مكتبى عام 2002 وحتى حصلت على البراءة فى القضية الملفقة)، فكان هناك تناغم واستقرار، ولم تكن هناك تلك الحالة المستهجنة التى صار فيها النقيب ومجلسه ملكيين أكثر من الملك.

تأتى هذه الانتخابات وهناك (70) صحفيًّا فى السجون بينهم (13) نقابيًّا، لم يبذل المجلس أى محاولة لفكهم وقد مر على بعضهم أربع سنوات فى الحبس الاحتياطى، اللهم إلا الإفراج مؤخرًا عن ثلاثة أو أربعة لدواعى الانتخابات، بل لا زالت هناك قضايا مفتوحة منذ سنوات يُضم إليها بين الحين والآخر عدد من الصحفيين، حتى صار الصحفيون عُرضة للإخفاء القسرى، والاعتقال العشوائى من الميادين ووسائل المواصلات وإيداعهم أقسام الشرطة وسط المجرمين، فضلًا عن تعرض البعض لما عُرف بـ«تدوير القضايا»، أو الاعتقال لأنه سبق اعتقاله، أو الإهانة والإذلال حال تطبيق الاختراع الجديد للنظام: «التدابير الاحترازية».

واقع الحال يقول إن الصحافة فى مصر صارت جريمة، والصحفيون يعملون تحت وقع التهديد بالاعتقال فى أية لحظة إن عارضوا أو حاولوا انتقاد الأوضاع العامة أو طرحوا الرأى والرأى الآخر، فى ظل رفع النظام للافتة: «من ليس معنا فهو ضد مصر!». والصحفى الحقيقى لا يعرف هذه النظرية النازية؛ فمن ثم تعطل كثيرون عن العمل؛ إيثارًا للسلامة، أو رفضًا لهذا الاستبداد الذى لم يمر على مصر استبداد مثله. فضلًا عن آلاف تعطلوا قسرًا كانوا يعملون فى أكثر من 600 موقع أغلقها النظام منذ عام 2014.

وأمام هذا الوضع الكارثى اضطر الكثيرون إلى العمل فى مهن أخرى، كبائعين فى محال أو سائقين فى «أوبر»، ومما سمعته هذه الأيام أن بعض الزملاء ممن لا يملكون مالًا تقدموا لشراء سيارات بالقسط وعد بها أحد المرشحين؛ بغرض العمل عليها ومن ثم تسديد أقساطها.

ولم يبق أمام قطاع عريض من الصحفيين إلا الاعتماد -بعد الله تعالى- على قيمة «بدل التكنولوجيا» الذى يزيد على الألفى جنيه بقليل، وقد اعتمدت عليه الأنظمة المتعاقبة لإنجاح مرشحها بزيادته مع كل دورة انتخابية، وما بين فترة وأخرى تنتشر شائعات بمنعه؛ ليبقى أرباب القلم طوع أمر النظام حفاظًا على هذا الدخل الثابت فى ظل غول الغلاء الذى التهم كل شىء..

غير أن ما أراه هذه الدورة مختلف عن كل ما سبق، أرى رغبة وإصرارًا على تصحيح الأوضاع المختلَّة، مهما كانت النتيجة، وقد أدرك الجميع أن من فرط فى حريته حتمًا سيمد يده.