انتهى تقرير النيابة العامة بشأن حادث تصادم قطاري سوهاج في أواخر مارس الماضي "2021م"، والصادر يوم الأحد 11 أبريل 2021م، إلى إعفاء وزير النقل الفريق كامل الوزير وكبار اللواء المديرين في ديوان الوزارة وهيئة السكة الحديد من المسئولية وتحميلها لصغر الموظفين. ووفقا لتقرير النيابة "الملاكي" فإن تعاطي المخدرات والتزوير وترك أبراج المراقبة وقت العمل أبرز أسباب الحادث؛ وهو ما أثار استياء واسعا في الشارع المصري.
تقرير النيابة رغم أنه يعفي الوزير وقادة الوزارة من المسئولية إلا أنه نفى أيضا رواية الوزارة في أعقاب الحادث مباشرة بشأن مسئولية مجهولين عن فتح كوابح الطوارئ لبعض العربات، وقد كان بيان الوزارة محاولة لتوجيه الأنظار نحو احتمال وقوع عمل إرهابي. كما اتهم تقرير النيابة سائقي القطارين والمساعدين بالتزوير وتعاطي بعضهم للمخدرات. وبالتالي فإن تقرير النيابة برهان على أن الوزارة استخدمت الكذب والتلفيق من أجل تبرئة جانبها بشأن الحادث الذي راح ضحيته نحو 32 مصريا وإصابة نحو 185 آخرين.
كذب الوزير
وفي هذا السياق غرد الصحفي جمال سلطان قائلا “نتائج تحقيقات النيابة في قطاري سوهاج تثبت كذب وزير النقل، وأنه لا صحة لعبث الركاب بمكابح القطار، وتؤكد أن السائق لم يكن موجودا ومساعده يتعاطى مخدر الترامادول، ومراقب برج المحطة يتعاطى الحشيش. وبذلك تكون الحكومة ضللت الرأي العام من خلال الإعلام وبثت أخبارا كاذبة!”. وكتب الإعلامي محمد عبد الرحمن “تؤكد تحقيقات النيابة أن شراء المعدات والأنظمة والقاطرات لا قيمة له قبل تطوير العنصر البشري أو تغييره إن كان عصيا على التطوير. فالمتخلفون سيعيدون إنتاج مناخهم المتخلف وخلق أدوات تخلفهم حتى لو شغلتهم في شركة السكك الحديدية الملكية الكندية”. وكتب أحمد يقول “أمال الوزير كان طالع يقول إيه؟ طلع حكى لنا قصة خيالية لم تحدث أصلا!”. وكتبت منة مراد “بيان النيابة العامة مذهل بكل المقاييس! لا أحد كان بمكانه أو يقوم بعمله سواء داخل القطار الذي وقف أو الذي اصطدم به أو في برج المراقبة، وبعضهم يتعاطى الحشيش أيضا!”.
ويرى آخرون أن تقرير النيابة ليس هو اليقين قطعا، مطالبين بالتريث حيال ما تصدره النيابة من تقارير؛ فقد سقطت كثيرا في اختبارات المصداقية ويكفي أنها جزء من السلطة تعمل لحسابها ولا تتتمتع بأي استقلال يذكر، وأن هناك احتمالات بتستيف أوراق التحقيقات لتحميل المسئولية لصغار الموظفين وتبرئة الجنرالات الكبار؛ خصوصا وأن ملف النيابة في التماهي مع النظام وتلفيق التهم لآلاف الأبرياء لا يقل حقارة عما يفعله ضباط الأمن الوطني. ويبرهن أصحاب هذا الرأي على صحة ما ذهبوا إليه بأن الدكتاتور عبدالفتاح السيسي قد وجه في أعقاب الحادث المؤلم بإكمال ما أسماه بمخطط «التحديث الجذري الشامل» لمرفق السكة الحديد على مستوى الجمهورية. وهو ما تبعه وزير النقل الفريق كامل الوزير بالاعتذار عن حادث تصادم القطارين، وطالب الوزير المواطنين بالصبر والتحمل لحين الانتهاء من تطوير المرفق قائلا: «استحملونا لحد ما نخلص التطوير عشان نوديكم أشغالكم وما نقفلش السكة الحديد»، مضيفًا أن الدولة رصدت 225 مليار جنيه لتطوير السكة الحديد في مصر، وأن وزارته تحاول المواءمة بين متطلبات التشغيل والتطوير. ولم ينس الوزير، في مؤتمر صحفي، مطالبة المواطنين بالتصدي للباعة الجائلين والتوقف عن التهرب من دفع التذكرة وإلقاء الحجارة على القطارات، حتى يستنى للوزارة تطوير المرفق.
إغلاق الملف
بحسب أصحاب هذا الرأي، فإن هذه التصريحات كانت تستهدف في المقام الأول إغلاق ملف الحادث؛ ذلك أن الربط بين عدم اكتمال تطوير مرفق السكك الحديد والحادث هو أمر يخالف الحقيقة، وبحسب مصادر بهيئة السكة الحديد لموقع "مدى مصر"، فإن جرار القطار المكيف رقم 2011 الذي اصطدم بالقطار الآخر هو جرار روسي دخل الخدمة قبل بضعة شهور، والأمر نفسه بالنسبة لبرج الإشارة الذي وقع الحادث بالقرب منه بمنطقة طهطا بمحافظة سوهاج، هو أيضا دخل الخدمة منذ شهور وفقا لمخططات التطوير التي يتحدث عنها السيسي وكامل الوزير، معنى ذلك أن عناصر الحادث من جرار وبرج إشارة قد جرى تطويرهما منذ شهور فلا مجال إذا للتذرع بعمليات التطوير الجارية لأنها تمت بالفعل في المكان الذي وقع فيه الحادث؛ وبالتالي فإن الخلل يكمن في الإدارة وليس في عناصر التشغيل الأخرى؛ الأمر الذي يستوجب محاسبة جميع المتسببين فيه بداية من سائق القطار وحتى وزير النقل ورئيس هيئة السكك الحديد ونائبه لشؤون التشغيل. وكان وزير النقل قد أعلن في 20 ديسمبر الماضي(2020)، تطوير إشارات السكة الحديد بمنطقة طهطا باستبدال النظام الكهربائي القديم فيها بآخر إلكتروني حديث لمتابعة القطارات لحظة بلحظة، وتزويد المزلقانات بأجراس وأنوار وبوابات أوتوماتيكية للحد من الحوادث وتحقيق الأمان للمركبات، موضحًا أن النظام الجديد يتيح لسائق القطار الاتصال بمراقب التشغيل في حالات الطوارئ أو الأعطال المفاجئة.
من جهة أخرى فإن الحادث أضاف مزيدا من الدلائل والبراهين والتجارب التي تؤكد فشل الإدارة العسكرية؛ فقد جيء بكامل الوزير وهو ضابط كبير بالجيش برتبة فريق، على رأس وزارة النقل خلفا لهشام عرفات الذي قدم استقالته من منصبه في فبراير2019 إثر حادث قطار وقع بمحطة رمسيس الرئيسية في القاهرة، وأودى بحياة 21 شخصًا وإصابة 52 آخرين، لكن تغيير الوزير لم يمنع تكرار الحوادث حتى وقعت الكارثة الأخيرة. وكان كامل الوزير يتولى منصب رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، وبالتالي كان مسؤولا عن تنفيذ ومتابعة آلاف المشروعات التي ينفذها الجيش منذ عام 2014، وتوسم المصريون في الوزير الجديد -الذي يتسم بالانضباط والعمل الجاد على حد وصف السيسي- القدرة على وقف نزيف حوادث القطارات؛ لا سيما وأن السيسي أشاد بالوزير، ووصفه خلال كلمة له في الندوة التثقيفية للقوات المسلحة للاحتفال بيوم الشهيد، في مارس 2019، بأنه من أكفأ ضباط الجيش، قائلا "أنا بأدي (أقدم) للمرفق ده (لهذا المرفق – السكك الحديدية) واحد (واحدا) من أحسن ضباط الجيش، وده مش (وهذا ليس) معناه أن اللي (الذين كانوا) قبله ماكانوش كويسين (ليسوا جيدين)". وبالتالي فإن فشل أكفأ ضباط المؤسسة العسكرية رغم ما منح له من مخصصات مالية ضخمة دون سابقيه من الوزراء المدنيين برهان ساطع على فشل الجنرالات في حكم البلاد. لذلك تقرير النيابة يريد أن يحمي صورة الجنرالات فليسوا هم الفشلة ولكنهم السائقون والمحولجية وعمال الإشارة!
خسائر ضخمة
ولا يتوقف الفشل عند تعدد الحوادث الكارثية بل يمتد إلى الخسائر الضخمة لمرفق السكة الحديد؛ حيث بلغت خسائرها نحو 600 مليون دولار(نحو 10 مليارات جنيه) في السنة المالية 2017/2018م بحسب رئيس قطاع الحسابات الختامية بوزارة المالية عبدالنبي منصور؛ الأمر الذي دفع لجنة الخطة والموازنة في البرلمان نحو تشكيل لجنة تقصي حقائق لمراجعة خسائر الهيئة القومية للسكك الحديد. ولا يزال نزيف الخسائر يتواصل بالمليارات حتى اليوم دون حسيب و رقيب أو مساءلة، بل الأكثر دهشة أن معظم القيادات العسكرية في ديوان وزارة النقل تحظى بمرتبات ومكافآت ضخمة رغم هذا الفشل المتواصل، ورغم المخصصات الضخمة التي منحت لهم لتطوير المرفق. وكان وزير النقل أكد في تصريحات سابقة، أن مرفق السكة الحديد مدين بنحو 111 مليار جنيه للبنك المركزي، وبنك الاستثمار القومي، ووزارة المالية بمعدل 35 مليار جنيه لكل منها، بخلاف ديون أخرى لم يذكرها الوزير في تصريحاته. هذه الخسائر الضخمة التي تعلن عنها الحكومة لمرفق المترو والسكة الحديد دفع الشعب إلى التندر والسخرية من فشل النظام العسكري وراجت بينهم النكات بهذا الشأن وأبرزها أن "توكتوك الغلبان يكسب ومترو الحكومة وقطاراتها تخسر"!
عسكرة النقل
من جهة ثالثة، فإن هناك حالة من التجاهل حول عسكرة وزارة النقل على نحو كامل؛ وأن الوزارة يقودها من الألف إلى الياء ثلة من العسكريين واللواءات في جميع هيئاتها الاقتصادية والخدمية؛ فالوزير (فريق عسكري) ونائبه لواء، ومديرو الهيئة القومية لسكك حديد مصر والهيئة العامة للموانئ البرية والجافة وهيئة ميناء الإسكندرية وهيئة موانئ البحر الأحمروهيئة موانئ دمياط والهيئة العامة لسلامة الملاحة البحرية، وهيئة تخطيط مشروعات النقل والمعهد القومي للنقل والهيئة العامة للطرق والكباري والنقل البري والهيئة العامة للنقل النهري والهيئة القومية للأنفاق، كلهم لواءات. ولاننسى أن المجرى الملاحي لقناة السويس باعبتاره أهم شريان نقل بحري في العالم يتبع هيئة قناة السويس التي يديرها لواءات البحرية من الألف إلى الياء؛ ثم بعد ذلك يزعمون أن الجيش هو رمز النجاح والإنجاز في مصر؛ فمن أين يأتي كل هذا الفشل في كافة قطاعات الدولة التي يديرها جنرالات؟!