القدسُ الصابرةُ

- ‎فيمقالات

عشراتُ السنين مرَّت على تلك البقعة الطيبة من الأرض المباركة وهى تئنُّ، وقد حُوصر أهلُها، وقاتلوا وقُتلوا، وطُوردوا وشُرِّدوا، والأقسى والأمرُّ: الخيانةُ، خيانة القريب والبعيد، والعربى وغير العربى.. ورغم ذلك فإن أهلها لا يزالون بخير، على عهدنا بهم، قد يظنُّ ظانٌّ أنهم قد ذابوا ضمن دولة الكيان وأنه لم يبق فى فلسطين سوى غزة الأبية، لكن الواقع أثبت أنهم أباة جميعهم؛ من يسكن القدس، ومن يسكن أقصى الحدود فى أطراف «رفح».

ومن مثلُ المقدسيين فى صبرهم وصمودهم؟ ومن مثلُهم فى دينهم وعزتهم؟ ما يقرب من قرن وهم فى معارك لا تنتهى، وحروب لا تنطفئ، ونكبات يعجز عن احتمالها البشر، ثم هم بعد ذلك: نبضُ الأمة وشريانُها الرئيس ومؤشرُ حياتها، وقد رأينا فيهم جرأة وحماسًا، كما رأينا فيهم وعيًا ويقظة.

ولا عجب أن يكونوا كذلك، فهم بشرى النبى (صلى الله عليه وسلم)، ولا زلنا نرى منهم فى كل يوم آية حتى يكون الدين كله لله. أولئك فتية آمنوا بربهم، أبناء «الإسراء» من يعوّل عليهم المسلمون فى استحضار النصر مصداقًا لقوله (صلى الله عليه وسلم): «لا تزال طائفة من أمتى على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك. قالوا يا رسول الله! وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس».

نوصيكم يا أهلنا فى القدس، وأنتم من يوصِى غيره، بأن: اصبروا وصابروا ورابطوا، ولا يغرنكم تقلب الذين كفروا فى البلاد، ولا تخيفكم جموعٌ ولا كثرة؛ فإن النصر لمن آمن وأصلح، وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى، والمخذول من خذلته نفسه. واعلموا يا رجال أن من ورائكم أمةً تستن بكم وتهتدى بجهادكم؛ فلا تتنازلوا ولا تترددوا ولا يبدو منكم جبنٌ ولا خور. ونوصيكم بما قال ابن رواحة: «وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذى أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنها إحدى الحسنيين؛ إما ظهور وإما شهادة».

ووالله إن عدونا وعدوكم إلى زوال، هذا وعد الله لا يخلف الله وعده، وهناك عشرات الشواهد التى تؤكد ذلك؛ أولها أنتم.. من أثبتم أن أمة محمد لا تموت، وإذا كان العالم قد طف ميزان عدله فإن الله عادل لا يضل، فهو قائم بالقسط، لا يحب الظالمين، وما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الأمر من حال إلى حال، وما أُسس على باطل فمآله الهدم، فما بالكم بعدو تحدث الوحى عن غدره وحقده وجرائمه حتى فى حق أنبيائه ورسله، ولا زال حفدته يسرقون الأرض ويهتكون العرض ويسلبون المال ويسفكون الدم؟

استبشروا يا رجال ولا يقنطكم الملوك والأمراء والرؤساء الذين يقبعون فى قصور الممالك والدول، فهؤلاء لا يمثلوننا وليس لهم سلطان على قلوبكم، وقد سبق وألقمتموهم حجرًا فى إثر حجر، وضربتم بقراراتهم وما تدعى «الأممية» عُرض الحائط، وكلما ظنوا أنهم قد غلبوكم ظهر منكم ما يسوؤهم وقد نسفتم مؤامراتهم وخططهم؛ ذلك أنهم لم يقنعوا إلى الآن أن رجالكم غير رجالهم، ونساءكم غير نسائهم، وأن امرأة مقدسية مغمورة تنكأ فى العدو ما لم يفعله زعيم من زعمائهم.

ونبشركم ونبشِّر أنفسنا بأن ما نراه الآن من تضحيات ومواجهات هو فتح ونصر إن شاء الله، وانظروا إن شئتم إلى موقفكم من العدو قبل عام 1987 وبعده، إننا نرى الآن ما يشبه توازن الرعب بعدما كان قتل الفلسطينى على المشاع، وإنا لننظر لنبوءة «ياسين» -رحمه الله- على أنها واقع سيتحقق إن شاء الله، ولن يمر العقد الحالى إلا وصرتم وإخوانكم الغزاويون حديث الأولين والآخرين..

وأخيرًا نذكِّر بقول الرجل الصالح «حسن البنا»: «لا تيأسوا فليس اليأس من أخلاق المسلمين، وحقائق اليوم أحلام الأمس، وأحلام اليوم حقائق الغد، ولا زال فى الوقت متسع، ولا زالت عناصر السلامة قوية عظيمة فى نفوس شعوبكم المؤمنة رغم طغيان مظاهر الفساد، والضعيف لا يظل ضعيفًا طول حياته، والقوى لا تدوم قوته أبد الآبدين (ونُريدُ أنْ نَمُنَّ عَلَى الذينَ اسْتُضْعِفُوا فى الأرضِ ونَجْعَلَهم أئمةً ونَجْعَلَهم الوَارِثين».