عن الاحتلال السؤال الذي يجدد نفسه باستمرار: ما هي مهنة السيد محمود عباس الشهير باسم "أبو مازن" والقاطن في رام الله؟. هو في الإعلام، وفي الخطاب السياسي الرسمي، يسمّى رئيس السلطة الفلسطينية، أي رئيس فلسطين، كما تريدها إسرائيل. لكنه في الواقع، ومن دون أي افتراء عليه هو: مدير مزرعة التنسيق الأمني في رام الله، تلك المزرعة التي تذهب كل منتجاتها وعوائدها إلى الاحتلال الصهيوني، ويتبقى بعض الفتات لعباس والذين حوله.
هذا الرجل سكت طويلًا جدًا، عن جرائم الاحتلال في حق سكان حي الشيخ جرّاح، وأهل القدس المحتلة والمسجد الأقصى، وسكت أيضًا عندما امتدّت يد الإجرام إلى مناطق فلسطينية أخرى، وسكت حين قرّرت غزة أن تهب لنصرة القدس ونجدة المقدسيين، وسكت حين قصف الكيان الصهيوني غزة .. ثم أخيرًا نطق، وظهر أنه لا يزال حيًا يرزق في المزرعة التي يعيش فيها ويتعيش على حاصلاتها، عندما لقنت المقاومة المحتل الصهيوني الدرس، وأوجدت معادلةً جديدةً في المواجهة، وحولت مناطق الاحتلال إلى مدن أشباح، واستيقظ الشارع العربي كله على ملحمة مقاومة وأسطورة صمود.
هنا فقط، هرول محمود عباس صعودًا إلى مسرح الأحداث، لينطلق لسانه بالسفسطة، في تزامنٍ مع انطلاق جولات مقاولي التهدئة، من عرب كامب ديفيد القدامى والمستجدّين، والواقفين على الأبواب في انتظار الدخول إلى نادي التطبيع.
دعني أذكّرك بأن الشخص الذي تكلم بعد خرس طويل، منتحلًا صفة الزعيم للشعب الذي يقاوم، هو ذاته الذي يصف المقاومة بالسلاح بأنها "كلام فارغ"، أو كما قال مع انطلاق مسيرات العودة الفلسطينية "إن حماس بدأت تتبنّى المقاومة السلمية، وثبت لهم أن المقاومة السلمية الشعبية فعالة أكثر من الكلام الفاضي"، في إشارة للمقاومة المسلحة.
كان التنسيق الأمني، ولا يزال، عقيدة محمود عباس وقرآنه وإنجيله، كتابه المقدس، الذي لا يجب المساس به، وبالتالي من الصعب أن يجد نفسه متوافقًا مع فكرة المقاومة ضد العدو، من أجل التحرير… هو فقط مع ذلك النوع من المقاومة الأليفة التي لا تخدش روحانية التنسيق الأمني المقدس.
نموذج محمود عباس تجده في أطياف من الحكام، ومن السياسيين، والمثقفين، لا يطيقون الحياة من دون وجود الاحتلال الصهيوني، الذي قد يعادونه في الظاهر، لكنهم يلاطفونه ويخطبون ودّه في الباطن، هؤلاء صارت كراهيتهم فكرة المقاومة أكبر من كراهيتهم الاحتلال، فتنطلق من عندهم دائمًا تلك الروح الشرّيرة لاصطناع تناقضٍ بين مقاومة غزة ومقاومة فلسطين.
لعلك تذكّر أنه في العدوان الصهيوني على غزة يوليو/ تموز 2014 كانت آلات الثورة المضادة العربية تعزف لحنًا واحدًا، بتوزيعات متعددة، لكنها في النهاية تقود إلى محاولة اختراع سردية منحطة تقوم على أن غزة شيء، وفلسطين شيء آخر، وأن صواريخ المقاومة المنطلقة من غزة تصيب القضية الفلسطينية، قبل أن تؤلم العدو.
وصل الاستعباط ببعضهم، في ذروة موجة الجنون التي صنّفت باراك أوباما وهيلاري كلنتون من داعمي الإخوان والإسلام السياسي، إلى تسويق سفاهات من نوعية أن حماس تحقق رغبات أميركية بقصف إسرائيل كراهية وكيدًا في مصر "السيسية"، وانتشرت في الفضاء السياسي في ذلك الوقت روائح تحليلات سياسية كريهة، تبدأ من اعتبار حماس وفصائل المقاومة من الإخوان، وبالتالي فهم أعداء، وتنتهي إلى تصنيف هذه المقاومة إرهابًا، نزولًا عند الإرادة الصهيونية.
في العام 2015 كانت المدن والبلدات الفلسطينية في مواجهة آلة صهيونية عسكرية، بما فيها عصابات إجرامية من المستوطنين، فأبدع المواطن الفلسطيني، صاحب الأرض والحق، انتفاضة السكاكين، للدفاع عن نفسه ضد هذا الجنون، الذي بلغ حد إحراق الأطفال الرضع وهم أحياء، والتصويب على الأجنة في بطون الأمهات.
كان مشهد حرق الطفل الفلسطيني، علي دوابشة، مع عائلته في قرية دوما بجنوب نابلس، سابقًا على اندلاع انتفاضة السكاكين الفلسطينية، ضد جنود الاحتلال والمستوطنين المسلحين، غير أن الفريق ذاته الذي كان يرى المقاومة إرهابًا قفز على مشهد حرق الرضيع ليعطي دروسًا في الإنسانية الرثّة، فيدين المقاومة بالسكاكين ، ويعتبرها عنفًا وإرهابًا.
على رأس هذا الفريق كان عمرو حمزاوي وإبراهيم عيسى وطابور من موزعي "ثقافة السلام" ووكلائها. قلت وقتها: "ليفتينا عمرو حمزاوي وإبراهيم عيسى، ومن لفّ لفهم من المستنكفين من المقاومة بالحجر وبالسكين، فيما يجب على الفلسطيني الأعزل فعله، وهو يرى طفله الرضيع يحرق في مهده، وأقصاه يقتحم بالقوة المسلحة، وابنته تنتهك وتهان على المعابر وفي الطرقات، حتى يرضى عنه أولئك الذين يزرفون الدمع ساخنا على ضحايا محرقة النازي، التي مضى عليه قرن من الزمان، بينما الشعب الفلسطيني في محرقة أكثر بشاعة الآن".
مشكلة هذا الصنف من المشتغلين في سوق "ثقافة السلام" أنهم يتعامون عن أصل الحكاية، ويتناولون موضوع الشعب الفلسطيني باعتباره، فقط، حركة احتجاجية أقصى مطالبها أن يكون المحتل لطيفًا ومهذبًا، وأن تكون بيئة الاحتلال نظيفة ومكيفة، فيما واقع الحال، ومعطيات الماضي والمضارع والمستقبل، تنطق بأن القصة هي كفاح شعب واقع تحت احتلال إجرامي من أجل إنهاء هذا الاحتلال والانعتاق منه.
هؤلاء الذين دانوا انتفاضة السكاكين سابقًا هم الذين يدينون المقاومة بالصواريخ الآن .. هؤلاء هم الكلام الفارغ حقًا.