هل غيّر نظام السيسي قناعاته تجاه فلسطين؟!

- ‎فيمقالات

أثار الموقف المصري الأخير الرافض للعدوان الإسرائيلي على أهل القدس وغزة دهشة الكثيرين، سواء داخل مصر أو خارجها، بل داخل أوساط داعمي نظام السيسي أنفسهم الذين يعيشون حلة ارتباك شديد بين موقفهم التقليدي الجاهز دوما للطعن في المقاومة الفلسطينية؛ بل الطعن في كل الفلسطينيين واعتبارهم خونة، وأنهم أحد أسباب معاناة مصر على مدار عقود، وأنهم يمثلون خطرا على الأمن القومي المصري، وهذا ما عززته لديهم موجة المسلسلات الدرامية التي أنتجتها السلطات المصرية وبثتها خلال رمضان المنصرم أو في الشهور الماضية، والتي تدعي – ضمن ادعاءات وأكاذيب كثيرة – أن الفلسطينيين غزوا مصر خلال أيام ثورة يناير واقتحموا السجون وحرروا السجناء، وأنهم ضالعون في ما يحدث من إرهاب في سيناء.

الدهشة أيضا لأن الموقف التقليدي المصري وبالذات منذ انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013 هو التعاون الخفي والعلني مع العدو الإسرائيلي، وقد كانت أبرز مظاهره في العدوان الإسرائيلي على غزة في 2014، حيث سعت سلطة 3 تموز/ يوليو إلى تغيير عقيدة الجيش المصري لتعتبر العدو هو حماس وقوى الإسلام السياسي، وليست إسرائيل كما كانت عبر عقود طويلة من قبل.

صحيح أن السلطة المصرية ظلت حريصة على الإمساك بالملف الفلسطيني رغم عدائها الظاهر لحركة حماس، ورغم تلفيق قضية شهيرة للتخابر معها ضمت العديد من الرموز المصرية على رأسهم الرئيس الراحل محمد مرسي، وصحيح أن هذا العداء وتلك القضية لم يمنعا القاهرة من استقبال وفود حماس في حوارات المصالحة الوطنية الفلسطينية، بل وصل الأمر للسماح بفتح مكتب لحماس في القاهرة، إلا أن الصحيح أن كل ذلك يتم لهدف واحد هو إثبات أهمية النظام المصري وقدرته على لعب دور إقليمي، بالأخص في القضية الفلسطينية.

ويحضرني هنا قول منسوب للدبلوماسي القطري المخضرم حمد بن جاسم (وزير الخارجية الأسبق) أن مصر (في عهد مبارك وهو ما ينطبق على الوضع الحالي أيضا) مثل طبيب ليس لديه إلا مريض واحد، فهو حريص على إبقائه في حالة مرض دائم وليس شفاءه حتى لا ينقطع عمله.

الحفاظ على دور إقليمي إذن يفسر لنا جزئيا هذا الموقف المصري الأخير الداعم للشعب الفلسطيني (ولو بالحد الأدنى)، فالنظام المصري يدرك أن حلفاءه وأصدقاءه الإقليميين الذين كان يعتبر جزءا من تحالفهم يقزمون دوره، ويتجاهلونه في الكثير من الأحيان (آخرها رفض وساطته لوقف العدوان الإسرائيلي). فهم يتعاملون معه باعتبارهم أولياء نعمته، وأصحاب الفضل عليه، وبالتالي عليه أن يقبل التبعية لهم، بينما يتعرض النظام لضغوط من داخله لرفض هذا التقزيم الذي يتسبب في تآكل ما تبقى له من أنصار، والذي يجعله عديم النفع دوليا ما يسهل فكرة الانفضاض عنه.

يرتبط أيضا بما سبق أزمة سد النهضة، والذي قررت إثيوبيا بدء الملء الثاني له في يوليو/ تموز المقبل، بل تشير بعض المصادر إلى أن الملء الثاني سيبدأ فعليا بنهاية هذا الشهر.

ومن الواضح أن النظام أراد بموقفه المفاجئ ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، فهو يريد تأكيد حضوره الإقليمي كما ذكرنا، وهو يريد أن يوصل رسالة لحلفائه الإقليميين الذين خذلوه في أزمته مع إثيوبيا (وعلى رأسهم إسرائيل والإمارات) أنه قادر على إيذائهم، بدعم خصومهم ولو معنويا أو ببعض المساعدات الطبية (للمقاومة الفلسطينية). وأخيرا فقد أراد النظام صرف فائض الغضب الشعبي في أزمة السد إلى قضية القدس وغزة، وسحب الأضواء الإعلامية عن موعد الملء الثاني للسد والذي اعتبره السيسي خطا أحمر، والآن هو غير قادر على فعل شيء لوقف هذا الملء.

بالنظر إلى عقيدة نظام السيسي الأمنية، ورؤاه السياسية، لا يمكننا اعتبار هذا الموقف المصري المفاجئ موقفا استراتيجيا، والذي كان من مظاهره فتح معبر رفح، وفتح مستشفيات العريش أمام الجرحى الفلسطينيين، أو تصريح وزير الخارجية، أو خطبة خطيب الجامع الأزهر، أو تصريحات بعض الأذرع الإعلامية، بل هو محض موقف تكتيكي طارئ، تدحضه العديد من السياسات الثابتة وعمليات الشحن الإعلامي المستمر ضد القضية الفلسطينية، والقمع الأمني لأي تحرك شعبي داعم للنضال الفلسطيني، حيث لم يحتمل النظام رفع إحدى الصحفيات للعلم الفلسطيني في ميدان التحرير فاحتجزها لبعض الوقت عقابا لها، وتخويفا لغيرها. ولا يزال يحتجز الكثيرين بسبب دعمهم للقضية الفلسطينية، ومنهم من تظاهروا في 2017 احتجاجا على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس.

ربما أراد النظام المصري أيضا استباق انفجار شعبي رافض للعدوان على الأقصى وحي الشيخ جراح وغزة، لأن الشعب المصري ظل وفيا للقضية الفلسطينية ويعتبرها قضيته المركزية، رغم كل محاولات تشويه تلك القضية عبر وسائل الإعلام وعبر الأعمال الدرامية، كما ظل الشعب المصري رافضا للتطبيع رغم كل محاولات إغرائه. وقد جاءت الأحداث الأخيرة لتبرز هذا الرفض مجددا، وهو ما ظهر في بيانات بعض النقابات المهنية مثل الصحفيين والأطباء، وكذا موقف غالبية الأحزاب السياسية.

ولربما لو لم يتخذ النظام هذه الخطوات في مواجهة العدوان لحدث انفجار شعبي مفاجئ كما حدث مرات في عهد مبارك رفضا للعدوان على الشعب الفلسطيني، وهو ما لا يريد نظام السيسي تكراره خشية تحوله إلى احتجاجات ضد النظام مباشرة.

هذا الموقف الشعبي المصري الرافض للتطبيع ومعه مواقف بقية الشعوب العربية والإسلامية؛ هو ما دفع رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو للتأكيد على أن الشعوب العربية وليس الزعماء هي أكبر عقبة أمام التطبيع، فالزعماء يبذلون الجهود المكثفة للتطبيع وإقناع شعوبهم به، ولكن هذه الجهود ذهبت أدراج الرياح في مصر وفي الأردن والمغرب وغيرها، ولم تسجل سوى نجاحات جزئية في بعض دول الخليج وخاصة الإمارات والسعودية والبحرين. وعلى الأرجح فإن الانتفاضة الفلسطينية الحالية ستدفع الكثيرين لمراجعة موقفهم سريعا، كما أنها تمثل ضربة للحلف الصهيوني في المنطقة.

المقاومة هي الخيار الوحيد للشعب الفلسطيني في ضوء غطرسة القوة الإسرائيلية ورفضها للحق الفلسطيني، ولا مجال لترديد مقولات المنهزمين نفسيا بأن فصائل المقاومة مجتمعة لا تمتلك قوة عددية أو تسليحية مكافئة لجيش الاحتلال الإسرائيلي، فطبيعة المقاومة في كل مكان وعبر التاريخ أنها تكون من الضعيف ضد القوي؛ حدث ذلك في كل الدول التي تعرضت للاستعمار وقاومته بإمكانات بسيطة في مواجهة آلة عسكرية ضخمة، خذ لذلك مثلا من الجزائر مع فرنسا، ومن مصر مع بريطانيا، ومن فيتنام مع أمريكا، ومن الأفغان مع الروس ثم أمريكا.. إلخ، وخذ مثالا من مواجهة سلطة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ومن حرب أيرلندا التي استمرت 300 عام، بينما نحن نتحدث عن 73 عاما فقط هي عمر الاحتلال الصهيوني لفلسطين.

فارق كبير بين الموقف الشعبي المصري الراسخ الداعم للنضال الفلسطيني والرافض للتطبيع منذ 44 عاما، وبين موقف نظام سياسي اغتصب السلطة بدعم صهيوني، وليس متوقعا منه أن يعض اليد التي ساعدته والتي لا تزال قادرة على معاقبته، وإن سعى إلى الحصول على دور وظيفي مهما حاول الادعاء بغير ذلك فمخطئ من ظن يوما أن للثعلب دينا.