الاختبار الحقيقي للقوة المصرية

- ‎فيمقالات

حلم الجائع رغيف خبز، وحلم الظمآن شربة ماء، ولذلك لم يكن غريبا أن يذهب بعض المصريين بعيدا في تفسيرهم لمظاهرة "المواطنين الشرفاء!!" قرب مجلس الوزراء يوم الخميس الماضي (10 حزيران/ يونيو)، باعتبار تلك المظاهرة احتفاء بنصر عسكري على إثيوبيا في معركة السد.. لم يكن غريبا أن بعض المشاركين في تلك المظاهرة توهموا أنهم تم حشدهم بغية التأهب لإعلان مفاجئ من القوات المسلحة بتنفيذ ضربة عسكرية مدمرة للسد الإثيوبي.

لم يكن هذا الظن أو ذاك صحيحا بطبيعة الحال، فقد تم حشد أولئك المواطنين لمواجهة حشد محتمل دعا له بعض النشطاء المعارضين تحت شعار ثورة النيل، وهذا الحشد المحتمل (الذي لم يتم) اعتبره النظام مسا بالأمن القومي وتهديدا للسلام الوطني فقرر الاستعانة بالمواطنين الشرفاء لمواجهته إلى جانب قوات الشرطة وحتى قوات الجيش إن لزم الأمر!!

تمثل أزمة السد الإثيوبي أزمة وجودية بالنسبة لعموم الشعب المصري (الموالين والمعارضين والمحايدين.. الخ)، حيث تعتمد مصر على مياه النيل بنسبة 95 في المئة لتغطية احتياجاتها، وهذه الكمية التي تردها من المياه مهددة بفقدان ثلثها تقريبا مع تشغيل هذا السد، مع ما يعنيه ذلك من بوار لمساحات واسعة من الأراضي الزراعية ، واختفاء محاصيل رئيسية مثل الأرز وقصب السكر الأكثر استهلاكا للمياه.

ولذلك فإن معركة سد النهضة هي المعركة الأهم أمام المصريين مقارنة بكل المعارك السابقة (1956، 1967، 1973)، والتي انصبت على الحدود ومساحات من الأراضي، بينما أزمة السد الإثيوبي فتتعلق بشريان الحياة للمصريين جميعا.

هنا تبرز قيمة المادة 44 من الدستور وهي أحد مكاسب ثورة يناير الباقية، والتي تلزم الدولة بحماية نهر النيل، والحفاظ على حقوق مصر التاريخية المتعلقة به، وهذه الحقوق التاريخية تتعرض الآن للخطر جهارا نهارا.

وهنا تبرز طبيعة التحدي أمام القوات المسلحة المنوط بها حماية الوطن والشعب من كل الأخطار، والتي لم ولن يبخل عليها الشعب بما تحتاجه من ميزانيات للدفاع عن أرضه وسمائه ومياهه وثرواته.
وهنا تبرز طبيعة التحدي أمام القوى الوطنية المعبرة عن الشعب والتي تمثل طليعته في التحرك للدفاع عن الحقوق التاريخية المشروعة، وعدم ترك الأمر بيد النظام الحاكم فقط.

وإذا كانت مصر وإثيوبيا تتقاربان في التعداد السكاني (104 مليون مصر-109 مليون إثيوبيا) فإنه لا وجه للمقارنة بين القدرات العسكرية لكلتا الدولتين، حيث ترتيب الجيش المصري الثالث عشر عالميا، فيما الإثيوبي في المركز الستين عالميا وفقا لتقرير الموقع العسكري العالمي (globalfirepower.com). كما تقدر ميزانية الدفاع المصرية بعشرة مليارات دولار، بينما تقدر بنصف مليار في إثيوبيا. ويصل تعداد الجيش المصري إلى 930 ألفا بين عامل واحتياطي، بينما يبلغ الجيش الإثيوبي 162 ألفا فقط. كما يتفوق الجيش المصري بشكل كبير في قواته الجوية التي تشمل 1053 طائرة حربية متنوعة، والتي كان أحدثها الرافال، بينما يمتلك الجيش الإثيوبي 92 طائرة حربية فقط.

هذا العتاد العسكري المصري الكبير والذي أنفقت عليه مليارات الدولارات ليس للزينة، أو لمجرد التباهي والتفاخر، أو للاستعراضات العسكرية التي تبهر الشعب أو تخيفه على السواء، ولكنها لحماية هذا الشعب وموارده، وحدوده، وحين تتخلف القوات المسلحة عن هذه المهمة فإنها تكون قد تخلت عن وظيفتها التي أنشئت من أجلها.

لا ندري ما يحدث من تفاعلات داخل القوات المسلحة بخصوص أزمة سد النهضة، ولكننا ندري أن المصريين الذين تابعوا بتفاؤل كبير مناوراتها مع السودان، الأولى والثانية، أصيبوا بخيبة أمل مع عودة هذه القوات إلى أرض الوطن بعد انتهاء المناورات وقبل أيام قليلة من بدء الملء الثاني للسد، وأن أحلامهم الوردية استحالت كابوسا يقض مضاجعهم.

……………..

نقلا عن : عربي 21

ولا ندري إلى أين وصلت الوساطة القطرية التي فرضت السرية على تحركاتها، لكن ما ندريه ويعلمه الجميع هو إصرار إثيوبيا على المضي قدما في خطواتها للملء الثاني بعد أيام قليلة، دون اتفاق مسبق مع الجانبين المصري والسوداني، ودون أي اهتمام بالقلق الشعبي المصري، ودون أي اكتراث ببعض النداءات الإقليمية والدولية.

لا ندري ماذا يخبئه الغيب، ولكننا ندري أن ما يحدث حتى الآن هو "بعثرة" لكرامة مصر، الدولة التي ظلت قائدة مهيبة الجانب في محيطها العربي والأفريقي على مدار عقود من قبل، ثم هي اليوم تتسول موافقة إثيوبيا على قواعد الملء والتخزين، والإدارة المشتركة للمياه، بل تتسول حقها التاريخي والقانوني في المياه والمحددة بـ55 مليار متر مكعب والتي لم تكن تكفي وحدها كل الاحتياجات المصرية، وهي اليوم مهددة بفقدان ثلثها أو ربعها على الأقل.

لا ندري ماذا سيتخذ وزراء الخارجية العرب من قرارات في اجتماعهم المرتقب في الدوحة الثلاثاء، ولكننا ندري أنهم تأخروا كثيرا في هذا الموقف، وأن الدبلوماسية المصرية – قبلهم – تأخرت كثيرا في الاحتماء بظهيرها العربي، وفقدت ظهيرها الإفريقي الذي ينحاز بشكل واضح إلى جانب إثيوبيا، ومعه دول كبرى مثل الصين التي أعلنت انحيازها العلني للموقف الإثيوبي.

وأخيرا لا ندري طبيعة أو حجم التنازلات التي قدمها نظام السيسي لاسترضاء الجانب الإثيوبي (بخلاف إعلان المبادئ أو تنازلات مفاوضات واشنطن التي وقعتها مصر من طرف واحد، بينما رفضتها إثيوبيا، أو أي تنازلات في الوساطات الجديدة) لكننا واثقون أن النظام الانقلابي – المشغول بتسويق وهم الجمهورية الجديدة – قدم الكثير ولا يزال جاهزا لتقديم المزيد ثمنا لشرعية مفقودة، كما أننا في الوقت نفسه واثقون أن التاريخ لن يرحم من فرطوا في حقوق الشعب، وكلنا أمل أن يتحرك كل من يستطيع لإنقاذ الموقف قبل فوات الأوان.