شماعة التغذية المدرسية.. إفقار الشعب لإثراء العسكر

- ‎فيتقارير

يسير النظام العسكري في مصر في خطوط متصاعدة من الضغوط والقهر السياسي والاقتصادي والاجتماعي للشعب، من أجل إخراسه وإسكات أي روح مقاومة فيه، من أجل استقرار نظامه الهش سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وفق تقديرات الدوائر الغربية والأكاديمية.

فلا يكاد يمر أسبوع إلا ويُفاجِئُ فيه السيسي المصريين بقرارات وحشية تنم عن جشع عسكري، كشف عنه قبل استيلائه على سُدة الحكم،  بتسريبه الذي كشف عن رغبته وخططه لأن يدفع المتصل تليفونيا كما المستقبل، وهو ما يعد الخطوة المقبلة. ومنذ الانقلاب العسكري، لم يقدم السيسي للمصريين أية أخبار سعيدة على مستوى اقتصادهم الهش، فما بين رسوم إضافية وضرائب متنوعة وخصومات من رواتبهم وزيادة أسعار وتقليص حصص بالدعم والتموين وغيرها من الكوارث.فيما يبدو كرم السيسي الوحيد عند صناديق الانتخابات لإغراء المهمشين بالمشاركة بكراتين تموينية ومساعدات من جيوب المشتاقين لكراسي البرلمان أو أصحاب المصالح الفاسدة مع النظام.

وفي نفس الوقت يصب السيسي وابلا من الإكراميات والامتيازات والاستثمارات بالأمر المباشر للعسكر، من أجل إسكاتهم وتثبيت حكمه، إذ أنهم هم الجهة الوحيدة التي بيدها القوة العسكرية القادرة على مواجهة السيسي إن رغبت في ذلك.

 

أزمة رغيف الخبز الأخيرة

وتشير الأرقام الرسمية في مصر إلى أن "المجتمع يضم 25.1 مليون أسرة، تقطن غالبيتها في الريف بنسبة 55.4%، بينما تستقر في الحضر 46.6% من الأسر". وأعلنت نيفين القباج وزيرة التضامن الاجتماعي في فبراير 2021 بأن "هناك نحو 8.5 ملايين أسرة مصرية تحت خط الفقر".

وقد تسببت العديد من السياسات الاقتصادية التقشفية، التي اتبعتها الحكومة منذ عام 2014، في زيادة رقعة الفقر، خاصة تلك السياسات التي تم تطبيقها بعد اتفاق الحكومة مع صندوق النقد الدولي في أكتوبر 2016.

وترتبط إجراءات السيسي المفروضة على الشعب، بما تم من توقيع اتفاق جديد بين صندوق النقد وحكومة مصر، في منتصف عام 2020، بعد حصول مصر على قرضين بإجمالي 8.5 مليارات دولار، منها ما يتعلق بشركات قطاع الأعمال العام، مثل تصفية شركة الحديد والصلب في حلوان، وغيرها.

وفق البيان المالي لموازنة عام 2021 /2022، فإن "إجمالي الدعم السلعي يبلغ 108.7 مليارات جنيه، منها 87.2 مليار جنيه لدعم السلع التموينية، التي تضم دعم رغيف الخبز ودقيق المستودعات، وكذلك دعم بطاقات التموين".

أما عن دعم رغيف الخبز، فقدّرته موازنة 2021 /2022 بنحو 44.8 مليار جنيه، وهناك 2.5 مليار جنيه لدعم دقيق المستودعات. والمفترض أن يستفيد من دعم الخبز ودقيق المستودعات 71 مليون فرد، منهم 66 مليون فرد يستفيدون من دعم رغيف الخبز، ونحو 4.3 ملايين فرد من دعم دقيق المستودعات، وكما هو مقرر، أن يحصل كل مواطن ممن يحصلون على الخبز المدعوم على 5 أرغفة يوميا.

وتعد منظومة دعم رغيف الخبز أحد أكبر أبواب الفساد، بسبب ما يتم في عمليات استيراد القمح من الخارج، أو توريد القمح من السوق المحلي، وكذلك عمليات التخزين، والنقل، والإنتاج، حيث تمر كل حلقة من هذه الحلقات بعمليات سرقة ورشاوى.

وفي تصريحات السيسي الأخيرة عن الخبز، حاول أن "يبرر إصراره على رفع الدعم عن رغيف الخبز بأنه سيوجه جزءا مما يقلصه في دعم الخبز؛ لكي يدعم منظومة الوجبات المدرسية، والحقيقة أن هذه الشماعة استخدمها السيسي منذ عام 2014، عندما بدأ بتقليص دعم الوقود والكهرباء والماء، مدعيا أن ما سيستقطع من دعم هذه البنود سيوجه لدعم التعليم والصحة، ولكن لم يظهر ذلك على أرض الواقع، ولم يشعر به المواطن".

الأمر الآخر هو أن السيسي يعرض البديل وكأن القائمين على أمر الوجبات المدرسية ملائكة أطهار، لا يعرفون الفساد، والواقع أن بوابة الوجبات المدرسية من أوسع منافذ الفساد، وقد رصدت أكثر من مرة مخالفة هذه الوجبات للشروط الصحية، بل وتسببت في حالات تسمم بالمدارس.كما أن بوابة التوريدات الحكومية تعاني كذلك من فساد بمعدلات عالية، فضلا عن احتكار الضباط السابقين بالجيش والشرطة لهذا النشاط.

والشعب المصري يدفع هنا ثمن غياب الشفافية في السياسات الاقتصادية والاجتماعية، التي اتبعها السيسي، فلا أحد اطلع على مجموعة الإجراءات التي قدمتها الحكومة، للحصول على القروض من صندوق النقد الدولي، لا الأجهزة الرقابية علمت بهذه الإجراءات، وبخاصة البرلمان، ولا المجتمع المدني، ولا الإعلام.

ويعد صندوق النقد الدولي مساهما في جريمة الضبابية التي تمارسها الحكومة بشأن التكتم على الإجراءات التي تنفذ ولها تداعياتها السلبية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي في مصر. ومن هنا نعلم أن ما اتخذه السيسي من قرارات بشأن تحسين الحد الأدنى للأجور، إلى نحو 2400 جنيه مصري، في بداية العام المالي الحالي، لم يكن من باب الشفقة على المواطنين، ولكن كان تمهيدا لمجموعة من الإجراءات التقشفية، التي سيتم تطبيقها، والتي يأتي في إطارها رفع الدعم عن الخبز.

 

في جيب الجيش

ولعل تذرع السيسي بأن قرار رفع الدعم عن  الخبز هدفه هو تدبير 7.7 مليارات جنيه  بصورة مبدئية، لتوفير وجبات غذائية للتلاميذ في المدارس الرسمية، مع انطلاق العام الدراسي الجديد في 9 أكتوبر المقبل هو قمة الانحياز السافر للعسكر على حساب ملايين المصريين الذين سينضمون لطوابير الفقراء.

وكان السيسي اجتمع مؤخرا مع اللواء وليد أبو المجد، المدير العام لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية، التابع للقوات المسلحة من أجل تولي الجهاز مسؤولية تدبير الوجبات المدرسية بالتنسيق مع وزارتي التربية والتعليم والزراعة.

وحدد السيسي  سعر الوجبة بسبعة جنيهات عن الطفل الواحد، بحيث تتضمن بسكويت سادة، وآخر محشوا عجوة، وفطيرة مدرسية، مع العلم أن تكلفة هذه الوجبة تقل كثيرا عن المبلغ المحدد؛ ما يُدرُّ أرباحا طائلة على جهاز الخدمة الوطنية مع كل عام دراسي.

ومن المقرر أن يغطي برنامج التغذية المدرسية جميع تلاميذ مرحلة رياض الأطفال، والمرحلة الابتدائية للشريحة العمرية حتى 12 عاما في المدارس الحكومية الرسمية، وذلك بإجمالي 12 مليونا و212 ألفا و596 طالبا وطالبة في 31 ألفا و403 مدرسة.

وجاءت تصريحات السيسي  خلال مؤتمر افتتاح المدينة الصناعية الغذائية "سايلو فودز"، المملوكة للقوات المسلحة، والتي ستتولى عملية إمداد الوزارة بالوجبات الغذائية للطلاب، لتفاقم أزمات أكثر من 71 مليون مصري، سيسقط الكثير منهم في دوائر الفقر إثر موجة غلاء حتمية في أسعار الغذاء.

وفي 15 يوليو الماضي، وجه السيسي بتوفير وجبات تتمتع بقيمة غذائية مرتفعة لتلاميذ المدارس، في لقاء جمعه برئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي، ووزير التربية والتعليم طارق شوقي، ووزير المالية محمد معيط، ووزيرة الصحة هالة زايد، بالإضافة إلى المدير العام لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية.

يذكر أن "جهاز مشروعات الخدمة الوطنية قد تورط في واقعة تسمم نحو 2243 تلميذا في محافظة سوهاج بصعيد مصر، إثر تناولهم وجبات مدرسية منتهية الصلاحية ورّدها الجهاز في عام 2017، ما أثار تساؤلات مشروعة عن تغول الجيش في قطاعات عديدة، واختيار شركة النصر للخدمات (كوين سرفيس) التابعة للجهاز، لتولي توريد التغذية لتلاميذ المدارس الحكومية والمعاهد الأزهرية بـالأمر المباشر".

وفي مايو 2020 تعاقدت وزارة التربية والتعليم مع القوات المسلحة لتولي تطهير وتعقيم لجان امتحانات الثانوية العامة، بمبلغ يقدر بنحو 950 مليون جنيه سنويا، في إطار الإجراءات الاحترازية للحد من انتشار وباء كورونا.

كذلك قالت مصادر متطابقة في وزارتي التربية والتعليم، والتعليم العالي، إن "عددا كبيرا من فنادق ودور القوات المسلحة في القاهرة، باتت تؤجر قاعاتها للمدرسين المتميزين في مراحل التعليم الأساسي مقابل مبالغ مالية كبيرة، بما فيها نظام الدبلومة الأميركية، وشهادة الثقافة البريطانية؛ استغلالا لاستثنائها من قرار مجلس الوزراء غلق التجمعات في الأماكن المغلقة في مواجهة جائحة كورونا".

كما أن تأجير القاعات في المباني المملوكة للجيش لم يقتصر على طلاب الشهادات الأساسية، مثل الإعدادية والثانوية العامة، بل شمل أيضا طلبة الجامعات في مختلف الكليات والتخصصات، بالاتفاق مع المعيدين والأساتذة المعروفين في مجال الدروس الخصوصية؛ بما يعد مخالفا لقرارات الحكومة منع التجمعات والمراكز التعليمية.

أما شركة سايلو مصر للصناعات الغذائية "SILO FOODS"، التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية بالقوات المسلحة، فهي مدينة صناعية متكاملة لا تحتاج لأي عنصر خارجي، سوى القمح اللازم لإنتاج الدقيق الذي يدخل كمادة خام أساسية في مختلف المنتجات التي تعمل عليها مصانع الشركة.

 

المحصلة.. ملايين الفققراء

وأمام الإثراء الكبير للجيش وشركاته والتي لا تدخل أمواله في خزينة الدولة ولا تخضع لضرائب أو رسوم، ستزيد معاناة ملايين المصريين.

وبلا شك سيؤدي رفع أسعار الخبز، لاتساع رقعة الفقر في المجتمع المصري، فإذا علمنا أن هناك 8.5 ملايين أسرة فقيرة في مصر، وهم بلا شك من مستخدمي الرغيف المدعم، فنحن أمام مشكلة كبيرة، لأن هذه الأسر الفقيرة لا تحصل كلها على الدعم الحكومي، ولكن 3.6 ملايين أسرة فقط هي التي تحصل على دعم يصل في حده الأعلى إلى نحو 450 جنيها شهريا من الضمان الاجتماعي. فما بالنا بباقي الأسر التي لا تحصل على الدعم من الحكومة؟.

كما أن جزءا من الطبقة المتوسطة سوف يسقط تحت خط الفقر، وبخاصة الشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة.

إن السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تتخذها حكومة السيسي لا تعبأ بالتبعات السلبية التي يتضرر منها الناس، فعند اتخاذ قرار تحسين الحد الأدنى للأجور، فإنه يستفيد منه العاملون بالحكومة والقطاع العام، وقد ينال كل القطاع الخاص المنظم، ولكن ماذا عن القطاع الخاص غير المنظم والذي يمثل أكثر من 50% من قوة العمل في مصر؟.

بطبيعة الحال عندما ترتفع تكلفة الخبز على الفقراء في مصر، سيؤثر ذلك على مستوى التغذية التي يحصلون عليها، وبالتالي، يتوقع أن تزيد معدلات الإصابة بالأنيميا، وسوء التغذية، وبخاصة الأطفال الذين تعاني نسبة منهم من التقزم خلال السنوات الأخيرة.

والغريب أن الدعم الذي يتباهى به السيسي، ليس بدعة تتم مارستها في مصر، بل هي موجودة في أكثر الدول تقدما، فأميركا تقدم دعما للفقراء، والاتحاد الأوروبي يقدم دعما للفقراء، ومن هنا نعلم أن السيسي وحكومته يساعدان على إفقار الناس في مصر، لا إغنائهم كما ادعى عندما قدم نفسه للترشح لرئاسة الجمهورية عام 2014، ولكن على ما يبدو فإن مبادرة "حياة كريمة" التي تحدث عنها السيسي مؤخرا يكون لها وجه آخر أكثر تعاسة، بحسب مراقبين.