رابعة- قندهار.. سلميتنا ورصاصهم

- ‎فيمقالات

قبل ثماني سنوات وقعت مجزرة رابعة التي راح ضحيتها ألف شهيد، وقبلها بعام وقعت مجزرة أصغر على يد جنود أمريكان في ولاية قندهار الأفغانية التي سيطرت عليها طالبان قبل ثلاثة أيام ضمن العديد من الولايات الأخرى في إطار معركتها الحالية لاستعادة حكمها على كل أفغانستان، والذي فقدته منذ عشرين عاما إثر الغزو الأمريكي.

الحقيقة أنه لا رابط بين المذبحتين، ولا تشابه من حيث الجاني أو عدد الضحايا، ولكن ما يقفز إلى الذهن في ذكرى مذبحة رابعة التي تواكبت مع الانتصارات المتواصلة لحركة طالبان واقترابها من دخول العاصمة كابل هو معادلة السلمية والرصاص.

فمن فوق منصة رابعة انطلقت صيحة مرشد الإخوان الدكتور محمد بديع "سلميتنا أقوى من الرصاص"، والحقيقة أنها لم تنقذ المعتصمين السلميين من رصاص الجيش والشرطة الذي حصد أرواح مئات الأرواح البريئة في ساعات قليلة، في حين رفعت حركة طالبان شعار"الجهاد المسلح" أو الرصاص في وجه تحالف دولي واسع بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية؛ يمتلك أعتى وأحدث الأسلحة، وحكومة محلية عميلة لذلك التحالف.

 

وقد نجحت الحركة بعد عشرين عاما من طردها من الحكم في أن تسترد العديد من الولايات مع انسحاب القوات الأمريكية والغربية؛ تطبيقا لاتفاق سياسي جرى توقيعه في الدوحة قبل عام مع حركة طالبان نفسها. والحقيقة أن توقيع ذلك الاتفاق لم يكن هدية مجانية من الولايات المتحدة، كما لم يكن محض نبل أو كرم أمريكي تجنبا لإراقة الدماء، بل جاء بعد عشرين عاما من الاحتلال الأمريكي لأفغانستان عقب تفجيرات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، والتي نفذها تنظيم القاعدة الذي كان يتخذ من أفغانستان في تلك الفترة مقرا له، وبالتالي تم تحميل حركة طالبان المسئولية عن تلك التفجيرات رغم أنها لم تكن مسئولة بشكل مباشر، لكنها كانت هدفا سهلا للأمريكان للثأر والانتقام، وتبريد نار الشعب الأمريكي الغاضب.
 

خلال عشرين عاما من الاحتلال لم تتوقف المقاومة، كانت تشتعل حينا وتهدأ حينا، وأوقعت الآلاف من القتلى والجرحى في صفوف القوات الغازية وحلفائها المحليين، وهو ما دفع إلى تصاعد الأصوات الأمريكية المطالبة بالانسحاب من أفغانستان مع استمرار وصول نعوش الضباط والجنود من ساحة المعركة، وأصبح الانسحاب من أفغانستان هدفا محل إجماع قومي أمريكي لا يختلف فيه الحزب الجمهوري الذي قاد الغزو ثم بدأ المفاوضات مع طالبان في أواخر حكم ترامب؛ عن الحزب الديمقراطي الذي نفذ الانسحاب مع بداية حكم بايدن.

كان من الطبيعي أن تحمل حركة طالبان السلاح في مواجهة الغزو الأمريكي، وهو التصرف الطبيعي لمواجهة أي احتلال أجنبي، وهو ما تفعله حماس في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، بل ما فعله المصريون من قبل ضد الاحتلال الإنجليزي؛ بمشاركة كل الفصائل الوطنية ومنها التنظيم الخاص لجماعة الإخوان الذي تأسس خصيصا لهذا الغرض.

وكان من الطبيعي لحركة تحررية أن توفر السلاح لمقاتليها بكل الطرق الممكنة، سواء عبر الشراء من السوق السوداء، أو عبر اغتنامها من قوات العدو، أو حتى من الدول الصديقة، ومن الطبيعي أن توظف طالبان التناقضات الدولية القائمة لصالحها خاصة الخلاف الصيني الأمريكي، والذي فتح أمام الحركة مخازن السلاح الصيني.

وقد نجحت الحركة بسلاحها وبعقيدتها الجهادية في إجبار المحتل على الجلوس على طاولة تفاوض معها بعد أن صنفها كحركة إرهابية، ووافق المحتل بعد جلسات التفاوض على الانسحاب من أفغانستان على مراحل تنتهي آخرها بحلول 31 آب/ أغسطس الجاري. ومع تنفيذ هذه المرحلة الأخيرة تهاوت الروح المعنوية لقوات الحكومة المحلية العميلة، وبالتالي سقطت المدن والولايات الأفغانية تباعا في قبضة طالبان، وكانت منها ولاية قندهار أحد المعاقل القديمة للحركة، والتي مثلت رمزا لحكمها في الوعي المصري؛ حتى تم وصف مليونية المطلب الوحيد (تسليم السلطة) في 29 تموز/ يوليو 2011 بجمعة قندهار، نظرا لغلبة الجلابيب واللحى على المظاهرة.

الانتشاء بانتصارات حركة طالبان لم يقتصر على أنصارها داخل أفغانستان بل شمل الكثيرين في عموم العالم الإسلامي وفي القلب منه مصر، وخاصة لدى المكلومين وضحايا الانقلاب والاستبداد. وبعض هؤلاء المنتشين بانتصارات طالبان يزعمون أن تجربة طالبان أكدت أن المقاومة المسلحة هي فقط الطريق لمقاومة الانقلاب العسكري ونظام السيسي في مصر، ويجددون سخريتهم من شعار"سلميتنا أقوى من الرصاص"، الذي أطلق من فوق منصة رابعة والذي وقعت بعده بأيام المذبحة البشعة.

الحقيقة أن صاحب هذا الشعار الدكتور محمد بديع يستحق جائزة نوبل للسلام لأنه أنقذ مصر من حرب أهلية مدمرة كانت لتسيل بحورا أكبر من الدماء، والحقيقة أن الزعم بأن المقاومة المسلحة هي الحل الوحيد لمواجهة الانقلاب هو نوع من السذاجة التي لا تعرف أو تتجاهل أحكام الشرع حول عصمة الدماء (ولا يغير هذه الأحكام انتهاك العسكر لها وارتكابهم لمذبحتي رابعة والنهضة وغيرهما)، كما لا تعرف حسابات موازين القوى، وتتوهم أن امتلاك عدة قطع من السلاح الخفيف، أو القنابل البدائية كفيلة بهزيمة جيش يمتلك أقوى الأسلحة الخفيفة والثقيلة، ناهيك عن اختلاف طبيعة المعركة بين أفغانستان ومصر.

ففي أفغانستان واجهت طالبان غزوا أجنبيا وحكومة محلية تابعة له، واستغلت طبيعة جغرافية، وتناقضات دولية وإقليمية ساعدتها بالمال والسلاح، أما في مصر فإن المواجهة هي مواجهة محلية بين مصريين، ولا يصلح لها إلا الطرق السلمية، وهي كثيرة وتصل إلى حد العصيان المدني الذي لم تتم تجربته بعد؛ ربما لعدم توفر البيئة الملائمة له، والتي تحتاج إلى جهد كبير في معركة الوعي.

خيار القوة المسلحة في مواجهة النظم الانقلابية والاستبدادية، وفي ظل انقسام مجتمعي هو خيار غاشم، يوفر غطاء شعبيا لتلك الأنظمة، ويمنحها الفرصة لاستخدام قوتها الغاشمة للإجهاز تماما على كل دعاة الحرية والتغيير والديمقراطية، والقضاء المبرم على روح المقاومة لدى الشعب، وقتل أي أمل في التغيير.

وفي المقابل، فإن المقاومة السلمية بأشكالها المتعددة هي التي توفر للشعب فرصة للنضال من أجل حقوقه، وهي التي تمنحه الأمل لاستعادة هذه الحقوق كما حدث في تجارب دول وشعوب أخرى، وهي التي يمكن أن تجد بيئة حاضنة محليا أو دوليا حسب قدرة المتصدرين لتلك المقاومة على طرح بضاعتهم، بالخطاب واللغة المناسبين.

استمرار المقاومة السلمية ولو في حدها الأدنى لمدة ثماني سنوات أمر جيد بحد ذاته؛ في مواجهة نظام يمتلك كل أدوات القوة الغاشمة ولديه داعمون ورعاة إقليميون ودوليون، لكن هذه المقاومة السلمية تحتاج إلى تطوير في الأدوات والسياسات والشخوص، والاستفادة من التغيرات والتقلبات والتناقضات السياسية المحلية والإقليمية والدولية، كما فعلت طالبان التي استمرت مقاومتها قبل الانتصار لمدة عشرين عاما، كما استمرت مقاومة غيرها لعقود أطول قبل أن تحقق نصرا. ولنا في تجارب شعوب قاومت الانقلابات العسكرية بالطرق السلمية في أمريكا الجنوبية وأسيا وأفريقيا؛ عبرة.