«طالبان».. من المعْرَكَة إلى «المَحْرَكَة»

- ‎فيمقالات

آلاف «المنجمين» من رواد «السوشيال ميديا» باتوا يتنبؤون بمستقبل «أفغانستان»، وذلك عقب استلام «طالبان» السلطة بعد تحريرها كامل البلاد وقبل حلول الموعد الرسمى لإعلان أمريكا الجلاء التام عن البلد المسلم بشهرين اثنين، ذكرى مرور عشرين عامًا على الغزو الذى وقع يوم الأحد (7 أكتوبر 2001).

فى اعتقادى لا أحد، مهما أُوتى من خبرة، يستطيع الجزم بما ستؤؤول إليه الأمور فى هذا البلد العجيب أهله؛ لأنه وكما هناك تطورات عالمية وإقليمية تتماس مع السياسة الخارجية للأفغان، هناك تطورات داخلية أيضًا وإن كانت تحظى بالتعتيم لظروف الاحتلال ولأن «أفغانستان» لم تكن فى بؤرة الاهتمام، أما وأن الأمور قد آلت إلى ما آلت إليه فلنتوقع أمورًا لم تكن فى الحسبان.

ومما لا شك فيه أن «طالبان» ليست مجموعة «دراويش» متشددين كما يتصور كثيرون؛ فإن حركة استعصت على الفناء رغم ما مُورس ضدها من حرب غير أخلاقية على مدى عشرين سنة، بل فرضت سيطرتها على البلاد خلال أيام، وفاوضت من قبل وتشددت فى شروطها مع القوة العظمى.. لهى جماعة داهية تدرك الواقع بامتياز، وتجيد لعب الأدوار على المستويات كافة، المحلية والإقليمية والدولية، إذا علمنا بتعقدات المحاور الثلاثة بالنسبة لها، خصوصًا المحور المحلى الذى يشتمل قبائل وعرقيات وإثنيات تستعصى على التوافق والاجتماع.

وإذا كانت «طالبان 1994» قامت بتحطيم التماثيل، ومنعت النساء من الخروج، وفعلت أمورًا طائشة، وكان جزءًا كبيرًا من الصورة التى وصلتنا -بالطبع- دعائيًّا لتبرير الاجتياح والعدوان -فإن «طالبان 2021» تعد نسخة معدلة متوافقة مع ظروف القرن الحادى والعشرين، بمعنى آخر: أنها انتقلت من المعركة إلى «المحركة»، والمحركة تعنى: العمل السياسى والحركى وإدارة الدولة؛ ما يتطلب التعاطى مع المجتمع الدولى باحتراف، وهو ما أعلنته الحركة على لسان متحدثها عقب دخول «كابول» مباشرة؛ إذ بعث برسائل طمأنة إلى الجميع ، فى خطاب متطور إلى حد كبير، معالجًا نقاط التخوف، فأكد أنهم لن يقوموا بأى عمليات انتقام، وأنهم لا يودون أن يعيشوا فى عزلة، بل يرغبون فى بناء علاقات مع المجتمع الدولى، ودعا العالم إلى الجلوس معهم لتسوية أية خلافات، مؤكدًا احترامهم لحقوق المرأة والأقليات.

إن «طالبان» لن تفشل فى الحكم إلا إذا حوصرت من النظام العالمى، مطروحًا منه روسيا والصين اللتين ترتبطان بمصالح اقتصادية وجيوسياسية مع «أفغانستان» ولم يبديا ما أبداه «الاتحاد الأوروبى» مثلًا، بل إن وزير الخارجية الصينى أبدى مرونة غير متوقعة يُفهم منها أنهم كانوا يتمنون خروج الأمريكان ووصول فصيل وطنى إلى السلطة ولو كان «طالبان». أما الداخل؛ فالمؤكد أن «طالبان» مقبولة عند غالبية الشعب الأفغانى، ومن ذاق مرارة الاحتلال عرف فضيلة الحاكم الوطنى ولو كان معيبًا، بل ليس من المبالغة إذا قلنا إن «طالبان» هى النموذج الأقرب لعادات وتقاليد الشعب الأفغانى.

بعد إنفاق نحو تريليونى دولار وفقد (3000) جندى وإصابة (20660) آخرين، وبعد إنفاق ما يزيد على مائة مليار دولار على تدريب ودعم جيش أفغانستان الموالى لهم.. خرج الأمريكان من أفغانستان يجرون أذيال الهزيمة، معترفين على لسان رئيسهم «بايدن» أن «أفغانستان مقبرة الغزاة».. وهذا الفضل راجع إلى الله ثم إلى «طالبان» التى قدمت آلاف الشهداء، وسكنت الجبال والكهوف، وعاشت حياة غير مستقرة، وعانت الجوع والعطش، ولولاها لعمّر الأمريكان وحلفاؤهم فى البلاد ولتمددوا خارجها، وكانت هذه التضحيات كفيلة بإرعاب جيش المرتزقة المكون من (300) ألف عنصر من الخونة وفرارهم من مواجهة أبناء الحركة، رغم ما كان تحت أيديهم من أسلحة ومعدات أمريكية ومنشآت ومطارات ووسائل اتصال وعلاقات إقليمية ودولية.

كلمة أخيرة: ما كان لـ«طالبان» أن تدخل العاصمة وباقى عواصم الولايات سلمًا لولا الدعم الشعبى غير المحدود، وهذا رد على من يدّعون أنها استولت على السلطة بحد السيف. وإن نسى الشعب الأفغانى فلن ينسى ما فعل به حلفاء الاحتلال من أنصار «كرزاى» ومَنْ خَلَفَه، وسيسجل تاريخه جرائم الأمريكان التى ستبقى عارًا فى جبين حضارتهم الزائفة.. دخلت القوات الأمريكية أفغانستان بعد شهر واحد من أحداث سبتمبر؛ ما يؤكد افتعال تلك الحادثة لغزوها. وقد استخدمت كل الأسلحة المحرّمة: صواريخ، يورانيوم منضب، قنابل قذرة، قنابل عنقودية، وقامت بعمليات قتل جماعى لأسرى الحرب، بشكل وحشى وغير أخلاقى، وقامت باعتقالات عشوائية وإذلال المعتقلين فى أسوأ معتقلات عرفتها البشرية (جوانتانامو، باجرام، مطار قندهار)، وقامت بعمليات إبادة جماعية (قصف حفلات زفاف، إبادة قرى بأكملها، تدمير قوافل مدنيين، قصف مستشفيات، قتل المصلين، تدمير المساجد)، فضلًا عن تجريح المشاعر الدينية للأفغان وانتهاك الحرمات والأعراف لشعب عُرف بعاداته وتقاليده المحافظة، إضافة إلى تهجير وتشريد الألوف، وتخريب البلاد..

حتى صارت «أفغانستان» أكثر بلاد العالم فقرًا.