جاء تعيين عبد الفتاح السيسي لخامس رئيس للمحكمة الدستورية منذ انقلاب 2013 (بولس فهمي) مثيرا للجدل، ويطرح عشرات التساؤلات.
التساؤل الأول، لماذا كافأ السيسي قضاة المحكمة الثلاثة السابقين بمناصب عليا، ما بين رئيس مؤقت لدولة الانقلاب ورئيس مجلس نواب وشيوخ العسكر، ثم عزل الرابع بطريقة مهينة هي الإقالة أي إحالته للمعاش المبكر، رغم أنه باق على انتهاء فترة رئاسته 3 سنوات؟
ولماذا عين قاضيا مسيحيا لأول مرة بعد 18 قاضيا مسلما للمحكمة منذ نشأتها عام 1970 أي قبل 52 عاما؟ هل بسبب حرصه على المواطنة التي أظهرت الأحداث عدم التزامه بها؟ أم لأسباب أخرى تتعلق بإرضائه للغرب في ظل حملات الهجوم والانتقادات لملفه الأسود لحقوق الإنسان؟
والتساؤل الثاني ، أن قرار إقالة رئيس المحكمة السابق إحالته للمعاش ، أثار تكهنات أخرى حول سبب عزل وإقالته ، وألا يعني ذلك تغول السلطة التنفيذية (السيسي) رسميا على القضائية، بعدما عدل الدستور برضاء القاضي مرعي الذي عزله ، بما يسمح له بعزل أوتعيين القضاة لأول مرة في تاريخ مصر.
وسائل الإعلام أرجعت هذا التغيير إلى وعكة صحية ألمت بالمستشار سعيد مرعي عمرو، أعجزته عن مباشرة مهام عمله كرئيس للمحكمة الدستورية العليا ثم توفي بعد ذلك بأيام، لكن نشطاء تساءلوا إذا كان السبب هو الوعكة الصحية ، فلماذا تمت إقالته بطريقة مهينة بدلا من استقالته؟
أسامة رشدي تساءل عما إذا كان السيسي طلب من رئيس المحكمة المُقال طلبا قانونيا معينا مخالفا للدستور مثلا بصورة صارخة ، ولم ينفذه مرعي ، فتمت إقالته بحجة الدواعي الصحية؟
https://twitter.com/OsamaRushdi/status/1491313086447652869
وتساءل القاضي السابق وليد شرابي عن دستورية قرار السيسي ، مؤكدا أن المادة الثانية من الدستور المصري تنص على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، والمحكمة الدستورية تختص بالنظر في دستورية التشريعات والقوانين ، بما يتفق مع مبادئ الشريعة الإسلامية.
وتابع عبر حسابه على تويتر ، مؤكدا أن تعيين المستشار بولس فهمي إسكندر رئيسا لتلك المحكمة أمر يحتاج إلى النظر في صحة دستوريته.
https://twitter.com/waleedsharaby/status/1491413388949614593?t=x2ukfpweJ_WDE8yeOwmbbg&s=09
مكافأت .. مكافأت
مكافأة السيسي لقضاة المحكمة الدستورية ، كانت هي القاسم المشترك في القضاة السابقين الذين عينهم مقابل خدماتهم السياسية.
المكافأت بدأت بأول رئيس للمحكمة عقب انقلاب يولية 2013 (عدلي منصور) الذي عُين رئيسا مؤقتا، ثم أمتدت لغالبية قضاة المحكمة، ما عزز التكهنات بشأن لعب المحكمة أدوارا سياسية أبرزها دورها في الانقلاب.
وحين رفض الرئيس الراحل محمد مرسي أداء قسم تولي الرئاسة أمام "الدستورية" وذهب ليقسم أمام الشعب أولا في ميدان التحرير، أستغرب منتقديه وقالوا لماذا؟ كما انتقدوا حصار متظاهرين للمحكمة ديسمبر 2012، احتجاجا على دورها في حل المؤسسات التشريعية المنتخبة لصالح المجلس العسكري كتمهيد للانقلاب.
لكن، تطور الاحداث منذ ثورة يناير وحتى ما بعد الانقلاب، كشف كيف لعب قضاة هذه المحكمة دورا سياسيا منحازا يتعارض مع دورهم القضائي الحيادي المفترض وقاموا بـ "انقلاب قضائي" مهد لـ "الانقلاب العسكري" لهذا كافأهم السيسي.
ففي 14 يونية 2012 أصدرت المحكمة الدستورية قرارا بحل أول برلمان منتخب في تاريخ مصر، ورد الرئيس مرسي 9 يوليهة2012 بقرار جمهوري بإلغاء قرار المحكمة بحل مجلس الشعب ودعوته للانعقاد مجددا، إلى حين انتخاب مجلس جديد.
وفي 10 يوليو 2012، أصدرت الدستورية العليا قرار مضادا يلغي قرار الرئيس محمد مرسي ، وأمرت بتنفيذ حكمها السابق ببطلان قانون انتخابات مجلس الشعب، واستمرار حل وبطلان المجلس، لتكشف مدى انغماسها في الصراع السياسي في البلاد.
وبخلاف دورها في بيان عزل الرئيس السابق محمد مرسي، لعبت الدستورية العليا، دورا سياسيا في عزل 15 من القضاة الذين أصدروا بيانا عام 2013 انتقدوا الانقلاب علي الرئيس محمد مرسي، وتمت إحالتهم للمعاش.
حيث قضت الدستورية العليا برئاسة المستشار عبد الوهاب عبد الرازق، 14 أكتوبر 2017، بعدم قبول 3 دعاوى مقامة من مجموعة من القضاة السابقين لإلغاء الحكم التأديبي بعزلهم، في قضية «قضاة البيان» بعدما أقاموا منازعة تنفيذ لوقف حكم إحالتهم إلى المعاش، بدعوى اشتراكهم في العمل بالسياسة.
في خدمة السيسي
كانت شهادة نائبة المحكمة الدستورية السابقة تهاني الجبالي التي وصفت فوز الإسلاميين بالانتخابات بأنه "سم قاتل" ،والتي أوردها ديفيد كيريك باترك، مدير مكتب "نيويورك تايمز" بالقاهرة في تقرير نشره 4 يولية 2012 أول تدخل علني من قضاة المحكمة لعرقلة الانتخابات ، وتحريض المجلس العسكري على عدم ترك السلطة للمدنيين.
تقرير نيويورك تايمز الأمريكية الذي جاء تحت عنوان Judge Helped Egypt’s Military to Cement Power أو قاض ساعد عسكر مصر على تعزيز قوتهم، نقل عنها أنها أيضا دور المحكمة في حل البرلمان المنتخب.
قالت "قمنا بحل البرلمان (2012) لضمان حق المجلس العسكري في الإشراف على كتابة الدستور، وهو ما دعا نيويورك تايمز لتذكير القارئ بمقولة رئيس الوزراء السابق كمال الجنزوري الشهيرة للدكتور سعد الكتاتني رئيس مجلس الشعب حينئذ إن "قرار حل البرلمان في درج المحكمة الدستورية".
لذا وصفت نيويورك تايمز ما جرى بأنه انقلاب قضائي ، لأنه جرى استغلال حكم الدستورية الجاهز لحل البرلمان، لضمان استقواء المجلس العسكري علي القوى الثورية، تحت غطاء من كراهية قضاة الدستورية لفوز الإسلاميين في الانتخابات.
وكان الدور الأخطر للقاضي عدلي منصور (رئيس الدستورية من 30 يونيو 2013 حتى 3 يولية 2013)، ضمن خطة الانقلاب على الرئيس الشرعي المنتخب محمد مرسي، حين تولي الرئاسة مؤقتا لإنجاح الانقلاب وإسباغ مسحة قانونية عليه أمام العالم حتى لا يقال إن "عسكري تولي الحكم وتهدأ الأمور".
وتبعه القاضي عبد الوهاب عبد الرزاق الرئيس السابق للمحكمة (من يونية 2016 حتى يونية 2018) والذي شارك في الحكم ببطلان مجلسي الشعب والشورى المنتخبين في عامي 2012 و2013 على الترتيب، فضلا عن إصداره حكما بعدم دستورية قانون العزل السياسي، من أجل إعادة الفريق أحمد شفيق إلى السباق الرئاسي مرة أخرى في عام 2012.
كما شارك السيسي في التنازل عن أرض مصر وباع معه تيران وصنافير، بإصدار حكم لصالح سعوديتهما لا مصريتهما.
وأخيرا القاضي حنفي الجبالي الرئيس السابق للمحكمة (23 يونيو 2018 حتي يولية 2019) والذي قبل ووافق على تعديلات السيسي بشأن تعيين القضاة بدلا من انتخابهم من قبل محاكمهم المختصة.
كانت مكافأة السيسي لرئيس المحكمة الدستورية السابق عدلي منصور تعيينه رئيسا مؤقتا لمصر، يوم 3 يولية 2013، ليرد منصور باستصدار قرارات وقوانين لا يزال يعاني منها المصريون ، أبرزها مد الحبس الاحتياطي لعامين للمعارضين ومنع التظاهر وضرب المتظاهرين بالرصاص.
ولا يزال السيسي يكافئ "منصور" بإحضاره في كل عرض عسكري أو مناسبة ليبدو وكأنه محاط بالقضاة ، رغم دوره المشبوه الواضح في الانقلاب، فضلا عن إطلاق اسمه على أكبر محطة مترو شرق القاهرة.
المكافأة الأخرى كانت من نصيب رئيس المحكمة الدستورية السابق عبد الوهاب عبد الرزاق، بتعيينه رئيسا لحزب السيسي (مستقبل وطن) مارس 2020، ثم في منصب رئيس مجلس الشيوخ أكتوبر 2020، وهو مجلس جرى إنشاؤه لمكافأة من قدموا خدمات للسلطة سواء قضاة أو صحفيين أو سياسيين.
وجاءت المكافأت مقابل دوره في الحكم ببطلان مجلسي الشعب والشورى المنتخبين في عامي 2012 و2013 على الترتيب، وإصداره حكما بعدم دستورية قانون العزل السياسي، من أجل إعادة الفريق أحمد شفيق إلى السباق الرئاسي مرة أخرى في عام 2012.
وكانت خدمته الأكبر للنظام متمثلة في الحكم الذي أصدره بعدم الاعتداد بجميع الأحكام الصادرة من مجلس الدولة، ومحكمة الأمور المستعجلة، في شأن بطلان اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، ومن ثم الحكم بتنازل مصر عن جزيرتي "تيران وصنافير" للسعودية.
وهو ما رد عليه الفقيه القانوني المستشار طارق البشري نائب رئيس مجلس الدولة الأسبق بمقولة نموذجية لصحيفة "الشروق" 18 يناير 2017 قائلا "التنازل عن السيادة ليس من أعمال السيادة".
مكافأة حنفي الجبالي أخر رئيس سابق قدم خدماته للنظام بتعيينه رئيسا للمحكمة الدستورية ثم رئيسا لمجلس النواب، جاءت أيضا لدوره في حكم التنازل عن تيران وصنافير، وأيضا صمته على تعديل الدستور والسماح للسيسي بتعيين رؤساء الهيئات القضائية في أبريل 2019 بمن فيهم رئيس المحكمة الدستورية.
فقد صدر قرار تعيين المستشار حفني علي الجبالي رئيسا للمحكمة الدستورية في مطلع أغسطس 2018 أي بعد أربعة أشهر من رئاسته للدائرة الدستورية التي حسمت نزاع تيران وصنافير لصالح السعودية، وظل في منصبه حتى يولية 2019، أي بعد تعديل الدستور بثلاثة أشهر.
بينما صدر قرار آخر باستبعاد المستشار يحيى الدكروري من أحقيته في رئاسة مجلس الدولة وفقا لمعيار الأقدمية المتبع في هذا الشأن لنفس السبب المتعلق بقضية تيران وصنافير، ولكن من زاوية أخرى حيث كان الدكروري رئيسا للدائرة التي حكمت ببطلان الاتفاقية في مجلس الدولة.
وكان قرار تخطي الدكروري مؤشرا عكسيا على مكافأة الجبالي، فقد اتُخذ قرار إبعاد الأول بطريقة بدا فيها النظام متحديا للجمعية العمومية لمستشاري مجلس الدولة التي تمسكت بمبدأ الأقدمية ، ولم ترسل إلا ترشيحا واحدا للسيسي هو المستشار يحيى الدكروري.