يتبجح عرابو التيارات العلمانية في العالم العربي بأنهم أكثر الناس ديمقراطية؛ لكن سرعان ما تنقلب شعاراتهم إلى دكتاتورية خليعة ، بل وحرق للأوطان إذا ما عرفوا ضعف حجمهم في المجتمع، وأن مشاريعهم إلى بوار بفعل "إفرازات صناديق الاقتراع" التي دائما ما تأتي بخصومهم إذا ما فتحت المشاركة السياسية للجميع بدون إقصاء أو تزوير، هنالك ينقلب العلمانيون إلى "أوصياء" على الديمقراطية يسفهون الشعوب ويتهمونها بعدم الفهم، حتى إن متغربا مثل محمد البرادعي تبجح قائلا "الشعب غير مؤهل للديمقراطية".
وعند سقوطهم من قعر صناديق الاقتراع ، يسارع العلمانيون إلى الارتفاع والصعود على الدبابات والتحريض على تدخل العساكر فيما لا دخل لهم فيه لا عقلا ولا شرعا ولا قانونا بحجة حماية الأوطان.
مجرد وسيلة
تم التمكين لجماعة الإخوان المسلمين في مصر والتي تتصدر المشهد الإسلامي، ليرثوا بحارا من فساد متراكم على مدى عقود، كانت المهمة صعبة للغاية، بل مستحيلة في مدة زمنية قصيرة تعادل فترة انتدابية انتخابية، وتم الانقلاب العسكري على الشرعية الديمقراطية ، ليتضح أن الديمقراطية ليست في حد ذاتها هي الحل، فالديمقراطية ليست برنامجا متكاملا يقدم حلا للأزمات الاقتصادية، بل هي مجرد وسيلة تمكن من التداول على السلطة بطريقة حضارية.
ارتعد مناوئوا الإخوان المسلمين من إمكانية نجاح التجربة الديمقراطية، وأرعبتهم شخصية الرئيس الشهيد محمد مرسي صاحب الفكرة الكبيرة التي نسيتها شعوب كثيرة "سننتج غذاءنا و سنصنع سلاحنا" فكرة كبيرة لم يكن ليذكر بها سوى رجل دولة شجاع مقدام من طينة الشهيد مرسي رحمه الله تعالى.
الأغلبية الساحقة من العلمانيين في مصر لا تنفي كونها مسلمة، و إذا كان عدد معتبر من قادة العلمانيين المعتبرين يؤيدون الديمقراطية و يشجبون الانقلاب العسكري و يرفضونه، فهذا يعني أنهم انضموا مجددا لقضية جميع المسلمين التواقين للحرية والكرامة، أما الإخوان المسلمون، فهم الضحية البارزة لأعداء الديمقراطية بعد ثورة 25 يناير التي قدمت شهداء كثر من جميع الفئات الثائرة، فما الانقلاب العسكري على حكم الرئيس الشهيد محمد مرسي سوى انقلاب على ثورة 25 يناير.
وبعد مرارة ما شاهده المصريون على يد انقلاب الـ30 من يونيو 2013، أضحى هناك ما يشبه الاتفاق على أن العسكر، أي عسكر، يجب أن يعودوا إلى ثكناتهم، بمن فيهم عسكر الجزائر وليبيا وسوريا واليمن والسودان وتونس، وألا يكون لهم أي دور سياسي مباشر في تاريخ المنطقة بعد الآن.
وتتلاشى الديمقراطية المستحقة للعرب والمسلمين أمام التوجهين، الأمريكي والروسي، في تأييد الأنظمة العسكرية، ومنها نظاما السفاح السيسي في مصر وخليفة حفتر في ليبيا، وبدرجة ما مجلس البرهان في السودان؛ وعكس ذلك هناك إجماع سياسي عربي، ورغبة شعبية عارمة في إقامة حاجز بحجم سور الصين العظيم بين العسكر والسياسة، وتحديد وظيفة العسكر في حماية المجتمع والدولة والنظام الديمقراطي، كما هو الحال في الدول الأوروبية تحديدا.
الفشل الذي مُنيت به التيارات العلمانية في الاستحقاقات الانتخابية التي تلت ثورة 25 يناير، بداية من الانتخابات البرلمانية، مرورا بالاستفتاء على الدستور، وأخيرا الانتخابات الرئاسية التي جاءت بالرئيس الشهيد محمد مرسي، الممثل لجماعة الإخوان المسلمين، جعلت التيار العلماني في مصر يتحرك نحو محاولة وأد وإيقاف تلك التجربة، ولو على حساب أبجديات أفكاره، مستعدا لقبول طرح الانقلاب المناهض لمبادئه.
الوضع المصري
سعت الأحزاب العلمانية والليبرالية في مجملها لإزاحة جماعة الإخوان المسلمين من الحياة السياسية، عبر المشاركة في مظاهرات 30 يونيو المدبرة مخابراتيا، وبالتبعية مساندة الانقلاب العسكري الذي نفذه السفاح السيسي في 3 يوليو 2013، والاصطفاف خلفه.
الاختبار الأصعب تمثل في الصمت العلماني، ودعم المجازر التي ارتكبها النظام العسكري بحق المدنيين، والانتهاكات الحقوقية الفجة، التي بالتبعية طالتهم مع الوقت، وبدأ يدفع التيار العلماني ثمن هذا الدعم من حريته وبقائه، والأصعب من شعبيته التي كانت متهاوية في الأساس.
انتقال مشهد الربيع العربي إلى المطاردة الدموية والتعقب العسكري العنيف في الوضع المصري بمشاركة كاملة أو مباركة ضمنية من تيارات عديدة من العلمانيين العرب، سواء في أجنحة القوميين المتعددة أو اليسار أو الليبراليين، هو حدث ضخم في دلالاته الفكرية والسياسية للتاريخ العربي الحديث، وفي مستقبل فكرة الدولة المدنية العادلة في ممارساتها السياسية والقانونية التي كانت تطرح الوسيلة الديمقراطية كبرنامج عمل لتحقيق حلم الشعوب التنموي والحقوقي.
غني عن البيان أنه في مطلع هذا القرن، ظهرت بوادر الانفراج و التقارب، من خلال مراجعات جوهرية قامت بها مختلف الاتجاهات الفكرية والأيدولوجية السائدة حينها، إضافة إلى بروز أصوات و هيئات مدنية تنادي بكبح هذا الصدام الطويل الأمد بين الاتجاهين الأكثر تجذرا في المجتمع المصري.
ولعل من الأسباب الرئيسية التي دفعت بعجلة الحوار إلى الأمام، هو الاتفاق على أن هذا الانقسام لا يخدم سوى قوى الاستبداد العسكري المهيمن منذ انقلاب 1952 م، فهذا الأخير يستفيد من هذا التطاحن ويوظفه بما يخدم مصالحه المتمثلة أساسا في الاستمرار في السلطة والسيطرة والتحكم في النخبة السياسية وإلهائها عن معركة الديمقراطية الحقيقية، مع اعتماده على سياسة "فرق تسد"، مما يبقي مسألة الديمقراطية مجرد حلم مؤجل بعيد الأمد.
وجدير بالذكر أن الصراع الذي قام بين التيارين الإسلامي والعلماني، قد تم في بيئة يسودها الحكم المطلق وغياب الديمقراطية في الحياة السياسية المصرية، مما مكن عصابة العسكر من استغلال الصراع للقفز على الواجهة وتقديم نفسها كبديل وحيد لكل الأطراف.
وبعد ثماني سنوات عجاف من الانقلاب العسكري بات السؤال الآن، هو هل يمكن أن تستعاد الثقة؟ وهل كانت ثقة موضوعية بين الإسلاميين التقدميين أو المحافظين وبين أجنحة العلمانيين العرب، التي تبنت تنفيذيا وفكريا إقصاءهم، بل قتلهم في بلاد الربيع ومنها مصر؟