تعاني كل نظم الحكم العربية من أزمة شرعية؛ فلا يوجد نظام عربي واحد قائم على عقد اجتماعي صحيح بين مكونات المجتمع وطوائفه وفئاته، كما لا يمكن الإقرار لأي نظام عربي من الخليج إلى المحيط، بقبول شعبي حقيقي جرى قياسه بأحد أدوات الديمقراطية الحديثة. نعم.. هناك نظم عربية شبه مستقرة كقطر والكويت وسلطنة عمان والمغرب والأردن، لكن اختيار حكامها لم يجر على نحو صحيح وحقيقي سواء كانت صورة من صور الشورى أو الديمقراطية الحديثة. وإنما جرى عبر آليات خاصة شاركت فيها دوائر ضيقة في أعلى هرم السلطة في لحظة فارقة تتعلق بانتقال السلطة بعد وفاة الملك أو الأمير السابق، كما أنها خلت من أي مشاركة شعبية جادة أو تنافس حقيقي، ويبقى حكامها(ملوك ــ أمراء) بعيدين عن أي تنافس حقيقي على السلطة التي يمكن أن يستمروا أعلى هرمها لعقود طويلة دون أن ينازعهم أحد. هذا لا يعني أن هذه النظم لا تحظى بقبول شعبي غالب داخل بلادها، لكن نريد فقط أن نشير إلى غياب أي آلية أو أداة حديثة يمكن أن تقيس هذا القبول وتوثقه وتكشف عن حجمه ومداه على نحو صحيح كالانتخابات والاستفتاءات بشرط أن تكون شفافة ونزيهة وتحظى بإجماع شعبي.
هناك فئة ثانية من نظم الحكم العربية يمارس حكامها أبشع صور القمع والطغيان، ويحكمون بلادهم بالحديد والنار، ولا يسمحون مطلقا بأي هامش من الحريات ولا يرى حكام هذه النظم شعوبهم سوى قطيع لا ينتظرون منه سوى الطاعة المطلقة ولا يسمح هؤلاء الطغاة بأي معارضة أو انتقاد، ويطلقون يد أجهزتهم الأمنية ليمارسوا بحق الشعوب صنوفا مذلة من التعذيب والقمع والإرهاب، كما يجري في مصر وسوريا والسعودية والإمارات، وانضمت لهم مؤخرا تونس، وكلها نظم حكم عسكرية اغتصبت السلطة عبر انقلابات عسكرية أو نظم حكم ملكية مطلقة تتعامل مع الدول والشعوب على أنها إقطاعية لهم كامل الحق في التصرف فيها كأنها ملك خاص ورثوه عن آبائهم!
بين الفريقين هناك نظم حكم عربية ثالثة دخلت بلادها في حالة فوضى لأسباب تعود إلى التدخلات السافرة سواء من جانب المعسكر الثاني الذي يمثل "تحالف الثورات المضادة" كما في ليبيا واليمن التي يراد قهر شهوبها لتذعن لنسخة من الحكم العسكري البغيض. وأخرى تأسست عبر معادلة محلية وإقليمية ودولية كما في لبنان والعراق، والتي جرى تقاسم السلطة فيها طائفيا في شكل آخر من أشكال تغييب الشعب عن صناعة القرار.
بدائل الشرعية
افتقاد كثير من هذه النظم منذ نشأتها لأي شرعية شعبية أو دستورية معتبرة، أو شرعية الإنجاز والاستقامة بتوفير الرفاه للشعب وإقرار العدل وتحقيق الأمان بمفهومة الشامل لكل المواطنين على حد سواء؛ دفعها للبحث عن بدائل يمكن أن توفر لها غطاء من الشرعية يمكنها من التعامل مع العالم الخارجي دون إحساس بانكشاف العورة أو الشعور بالدونية خصوصا أمام الحكومات الغربية التي تتباهى بأنها نظم ديمقراطية جرى اختيارها من الشعب بشفافية ونزاهة.
لجأت بعض هذه النظم (بلاد النفط العربي) إلى ضمان المصالح الأمريكية والغربية والمجتمع الدولي عموما وضمان ضخ الوقود إلى هذه البلاد حتى تتمكن مصانعها وشركاتها من الدوران والعمل دون توقف؛ وظل الأمر على هذا النحو لعقود طويلة، ولما تراجعت قيمة البترول بعد اكتشاف الوقود الصخري في الولايات المتحدة الأمريكية، وظهور أشكال جديدة من الطاقة (طاقة الشمس والرياح)؛ لجأت حكومات مثل السعودية والإمارات إلى عقد صفقات سلاح ضخمة مع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والتطبيع مع "إسرائيل" باعتبار ذلك يمثل بديلا للشرعية المفقودة التي تحقق لهذه النظم قبولا دوليا.
وفي مصر حيث سيطر الجيش على السلطة منذ انقلاب 23 يوليو 1952م، ثم أعاد الكرة منتصف 2013م وأعاد اغتصاب السلطة من مسار ديمقراطي حقيقي كان في بدايته، فإن النظام لجأ أولا إلى ما تسمى بالشرعية الثورية في عهد الطاغية جمال عبدالناصر، ولما أدرك أن هذه الخداع لا ينطلي على المجتمع الدولي، دخل في اتفاق تطبيع مع الكيان الصهيوني تحت رعاية أمريكية(كامب ديفيد 1979م) مع تعهده بضمان المصالح الأمريكية والغربية والإسرائيلية في مصر والمنطقة ولا تزال هذه العلاقة المشبوهة هي التي تمثل شرعية للنظام أمام المجتمع الدولي، وفي أعقاب انقلاب 3 يوليو 2013م عمل نظام الطاغية عبدالفتاح السيسي إلى أربعة مسارات لخلق شرعية بديلة لافتقاد النظام لأي شرعية معتبرة:
الأول، هو الالتزام الحرفي باتفاق كامب ديفيد وتوثيق التحالف مع "إسرائيل" حتى توظف نفوذها القوى دوليا لتأمين شرعية للنظام على المستوى الدولي.
الثاني، عقد صفقات السلاح الباهظة مع قوى دولية كبرى كفرنسا وإيطاليا وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وصفقات ضخمة في مجال الطاقة مع المانيا وبريطانيا وإيطاليا وإسرائيل. وأخرى في البنية التحتية مع الصين.
الثالث، هو المبالغة الشديدة فيما تسمى بالحرب على الإرهاب وتطابق مواقفه مع المواقف الأمريكية والغربية والإسرائيلية في هذا الشأن، مع توجيه الاتهام للإسلام والمسلمين باعتبارهم مصدر هذا الإرهاب وتلك الفوضى، وهي الحرب المفتعلة التي تستهدف التغطية على الأهداف الحقيقية وأبرزها تشويه الإسلام والتنكيل بالمسلمين والحركات الإسلامية وحصار أي توجه ديمقراطي في أي بلد عربي تحت مسمى الخوف من سيطرة الإرهاب، إضافة إلى حصار حركات المقاومة الفلسطينية باعتبارها شكلا من أشكال الإرهاب!
الرابع، هو الديمقراطية المزيفة؛ بإقامة انتخابات واستفتاءات صورية، فهناك قضاة ولجان ومنافسين وفرز أصوات، لكنها في حقيقة الأمر كلها مسرحية مفتعلة معلومة النتائج مسبقا، وتشرف عليها من الألف إلى الياء أجهزة النظام الأمنية التي تضمن أن تخرج نتائجها بحسب ما جرى رسمه والتخطيط له. ورغم ذلك فإن هذه الحيلة لا تنطلي على الشعوب التي فضحت هذه الممارسات الإجرامية بالمقاطعة، ولا حتى على المجتمع الدولي والحكومات الغربية التي توظف عمليات التزوير الفج في هذه الانتخابات لابتزاز النظام الانقلابي للفوز بمزيد من المكاسب على حساب الأمن القومي المصري.
لكل هذه الأسباب ستبقى مصر والمنطقة فوق فوهة بركان يوشك أن ينفجر في أي لحظة، وساعتها لن يعرف أحد حجمه ومداه وتأثيره إلا بعد فوات الأوان، قد يراه الطغاة والمستبدون بعيدا، وقد يكون أقرب إليهم مما يتخيلون. فارتقبوا إنا مرتقبون.