في عام 1300 هجري، وفي مدينة جبلة إحدى عرائس البحر المتوسط وكبرى المدن التابعة لحاضرة اللاذقية، ولد للشيخ عبدالقادر القسام مولود مشرق الوجه بهيّ الطلعة رائع المجتلى فحنكّه بتمرة اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا له بصالح الدعاء، ثم سماه عز الدين القسام، وسأل الله تباركت أسماءه أن يجعله من خيرة عباده الصالحين وأن يعزّ به الإسلام والمسلمين.
وما إن يفع الفتى حتى حفظ كتاب الله وتملّى من حديث الرسول وأخذ علوم العقيدة والفقه والعربية عن أبيه وتتلمذ على يدي الشيخ سليم طبارة أحد كبار علماء بيروت، فغرف من غزير علمه وأفاد من سامي توجيهه فإذا هو شاب واسع الأفق عالي الهمّة بعيد المطامح.
أمسك الدين بيمينه وعض عليه بالنواجذ وأخذ الدنيا بشماله وسخرها لخدمة الإسلام وعزة المسلمين، ولقد بلغ من علوّ همته وبعيد مطامحه أن ولّى وجهه هو وصديقه عز الدين علم الدين التنوخي.
شطر الديار المصرية طلبا للعلم ورغبة في التعرف على الوافدين إليها من أرجاء العالم الإسلامي.
فما لبث طويلا حتى التحقا بالأزهر منارة الدنيا وموئل العلم وتتلمذ لجملة من علمائه وتخرج على أيديهم وقد حدثت لعز الدين وصاحبه حادثة تدل على جوهر شخصيته وكمال رجولته وحسن تصرفه ذلك أن القائم على شؤون الطلاب بالأزهر قد قطع عنهما ما كان لهما من حقوق وجراية.
فصعب الأمر على التنوخي واصدق به الهمّ فما كان من القسّام وليد الثراء والغنى إلا أن أقنع صاحبه بممارسة عمل يدر عليهما من الرزق ما يفي بحاجتهما وييسر لهما متابعة دراستهما فاخذ التنوخي يعد في منزلهما صنفا من الحلوى كان يجيد إعداده وجعل القسّام يبيعه للمارة.
واستمرا على ذلك حتى قدم عليهما والد التنوخي حاملا إليهما ما يحتاجانه من مال فلما وقف على أمرهما قال لابنه نعم الصديق صديقك يا بني فلقد علمك الاعتماد على النفس وأرشدك إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم׃ "لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحد".
ولقد ظل التنوخي رحمه الله يروي هذه القصة لطلابه في الجامعات ولإخوانه في المجامع العلمية ما امتدت به الحياة.
عاد عز الدين إلى مدينة جبلة بعد تلك الرحلة الطويلة التي أفعمت فؤاده ثقافة وعلما وأترعت قلبه يقظة وفهما وغيرت نظرته إلى كثير من الأمور ورتقته على ما فيها من انحراف وكان أول ما أعاد فيه النظر حركة التصوف التي كان يقودها أبوه وجده في جبلة وقد كان بعض اتباع هذه الطريقة يفدون إلى جبلة كل عام مرة أو مرتين لزيارة خريجي أبيه وجده وللتبرك بهما وذبح الذبائح عند قبرهما فحال دونهم ودون تلك البدعة المستنكرة وسلك في ذلك سبيل اللين والموعظة الحسنة أحيانا وسبيل الحزم والقمع أحيانا أخرى.
ثم أخذ عز الدين يعيد للمسجد مكانته التي كانت له في عهود المسلمين الزاهرة فاتخذ من جامع "إبراهيم بن الأدهم" موئلا للناس ومنهلا.
ففي رحابه تقام العبادات وتعقد الاجتماعات وتنظم الحركات وبين جدرانه تلقى المواعظ والمحاضرات وفي أفنيته يتلقى الطلاب علوم الدين والدنيا.
ثم استأذن ولى الأمر في الأستانة فأذن له بإعداد فريق من المجاهدين يجمع إلى عزمات الشباب حكمة الشيوخ وذلك ليأمروا الناس بالمعروف وينهوهم عن المنكر وقد أخذوا على عاتقهم مكافحة المسكرات وتصدوا للقوافل التي تهرب المخدرات وتعقبوا الأشخاص الذين كانوا يتركون الصلاة عامدين وشهرّوا بهم بين الناس وحملوا بعضهم على توابيت الموتى وطافوا بهم في الشوارع.
وقد أحيا القسّام فريضة الجهاد في نفوس مواطنيه وحضهم على بذل النفس والنفيس ذودا عن الدين وجهادا في سبيل الله فما إن غزا الإيطاليون طرابلس الغرب حتى هب يجمع الأموال لدعم المجاهدين ويجند المتطوعين لمؤازرة الجيش العثماني في دفاعه عن قطر غال من أقطار المسلمين.
حربه ضد الفرنسيين
ولما انهارت الخلافة الإسلامية (العثمانية( واحتل الفرنسيون لبنان والخط الساحلي الملحق به وعلى رأسه مدينته جبلة نهض عز الدين القسام لمقاومة الجيش الفرنسي الغازي فبادر إلى جمع المال وبدأ بنفسه قبل أن يسأل الناس فباع أملاكه كلها ووضع أثمانها في هذا السبيل حيث اشترى الأسلحة والذخائر وجند الشباب والشيوخ وقادهم بنفسه.
ولقد خاض مع الفرنسيين معارك ضارية وكبدهم كثيرا من الخسائر في الأموال والأنفس ثم أخذت المعارك تقلب له ظهر المجن حيث طفق الفرنسيون يستقدمون لقتاله الفيلق تلو الفيلق ويحكمون قبضتهم على جبلة وما جاورها موقعا اثر موقع وجعل عز الدين ومن معه يتقهقرون يوما بعد يوم ويتراجعون من منطقة إلى أخرى ويفقدون ما معهم من الذخيرة والسلاح.
ثم إن فريقا كبيرا من الأغنياء والوجهاء الذين كانوا يؤازرونهم اخذوا ينفضّون من حولهم ويخضعون لنذر الفرنسيين ويعلنون ولائهم لهم ولا سيما بعد أن استشهد المجاهد الكبير عمر البيطار وكثير ممن كانوا معه.
ولما أيقن عز الدين بأنه بات مهددا بالتطويق بين ساعة وأخرى وبأنه سيلقي بنفسه وبمن معه إلى التهلكة اتجه برجاله إلى منطقة حلب وانضم إلى "إبراهيم هنانو" ويظل يجاهد معه حتى انقص الفرنسيون على حركته وبسطوا نفوذهم على سورية من أقصاها إلى أقصاها وحكموا على المجاهدين الذين افلتوا من أيديهم بالإعدام وكان في مقدمتهم عز الدين القسام.
إقامته في فلسطين
ولّى القسّام وجهه شطر فلسطين التي أخضعت لحكم بريطانيا ونزل في مدينة "حيفا" وأفاد هو وأمثاله من التنافس الذي كان قائما بين الفرنسيين والإنجليز على التركة العثمانية وفي مقدمتها سورية وما كاد يستقر هناك حتى اخذ يلقي الخطب الجمعية على المنابر ويعقد الدروس والمواعظ في المساجد فتمالت إليه جماهير الناس وتعلقت به وقد اهتم اهتماما خاصا بالعمال المكدودين والفلاحين الذين طردهم اليهود من الأرض التي كانوا يعملون فيها.
وذلك بعد أن اشتروها من أصحابها بباهظ الأثمان . فاخذ يوثق علاقته بهم حيث يزورهم في مساكنهم النائية ويبحث لمريضهم عن طبيب يداويه ولمضطرهم عن معونة تكفيه ولعاطلهم عن عمل يقوم بأوده.
ولما تعمقت صلاته بنفر مختار منهم جعل يؤكد لهم بأن حياة المسلم تقوم على الاتصال بكتاب الله فهو ربيع قلبه ونور عينه و أن هذه الصلة لا تحقق إلا بتعلم القراءة والكتابة ثم جعل القرآن الكريم مصدرهم لتحقيق هذه الغاية وطفق يختار لهم من سوره ما يسهل عليهم حفظه وفهمه ثم يرتقي بهم درجة اثر درجة فإذا تمكن طلابه من القراءة والكتابة علمهم سورة الجهاد وحضهم عليه واخبرهم بأن المسلمين كانوا إذا لقوا عدوهم قرأوها فتقوى عزائمهم وتطمئن قلوبهم ويتذوقون السكينة ويحرزون النصر.
ولقد قسم طلابه إلى مجموعات صغيرة لا يعرف بعضها بعضا فكان كلما اطمئن إلى عدد منهم لا يزيد عن العشرة ووثق بصدق ثباتهم وتوافر خبرتهم ولى عليهم نقيبا منهم يجمع إلى قوة الإيمان عمق الخبرة في فنون القتال وكان كل نقيب يدرب أفراد فرقته تدريبا صارما فيفرض عليهم أن يسيروا ساعات طويلة في شعاب الجبال وهم حفاة و أن يناموا في البرد القارس بلا غطاء و أن يتحملوا الجوع والعطش و أن يعيدوا بناء أنفسهم من جديد ولو طال عليهم الأمد.
ولقد اكرم الله القسّام بأن أفضت إليه رئاسة جمعية الشبان المسلحين كبرى الجمعيات الإسلامية في فلسطين فتوثقت صلاته بعلية القوم من أعضائها وقويت أواصره مع نخبة المثقفين من أبنائهم وقد دفع ذلك عنه كثيرا من الشر وعاد على حركته بوفير من الخير.
ثم عهدت إليه المحكمة الشرعية بوظيفة المأذون الشرعي المتجول فانفسح المجال أمامه للتنقل في القرى والدساكر وعقد الاجتماعات السرية مع سكانها ودعوتهم إلى الانضمام إلى حركته ومؤازرته بالأموال والأنفس ولقد وقف خلال تجواله على قطعة خصبة من الأرض في منطقة بيسان فابتاعها وعهد بها إلى رجل مهيب نشط من كبار أعوانه هو "محمد الحنفي" فاخذ يزرعها كل عام مرتين ويستغل مواردها في شراء الأسلحة للمجاهدين وإعانة من يحتاج منهم إلى المعونة.
وعلى الرغم مما أحيطت به حركة القسّام من التكتم الشديد واليقظة المبالغة فقد استدعته سلطات الأمن اكثر من مرة وحققت معه أدق التحقيق وأعمقه ثم كانت تطلق سراحه لعجزها عن إثبات ما ينسب إليه.
جهاده.. واستشهاده
كتائب الشهيد عز الدين القسام
وفي عام 1354 هجري خاضت فرق عز الدين القسّام ميادين الجهاد في كثير من أرجاء فلسطين ولقد اتجه هو وعشرة من رجاله نحو الجبال الواقعة بين نابلس وجنين واتخذ منها معقلا لجنده ومنطلقا للانقضاض على عدو الله وعدوه وفيما كان يتجول مع أعوانه خلال الجبال فاجأتهم ثلة صغيرة من جند العدو فانقضوا عليها انقضاض الصاعقة وأردوا أحد رجالها قتيلا وحملوا الآخرين على الفرار.
وقد أيقن القسّام بأن هذه الفئة الصغيرة إنما هي جزء صغير من كل كبير يعسكر قريبا منهم وانهم سوف يعودون إليهم معززين بالجند مزودين بالسلاح والذخيرة وانهم سيحوطون بهم إحاطة الغل بالعنق فقسّم المجاهدين الذين كانوا معه ثلاث فرق حتى إذا قضى العدو على بعضها نجا بعضها الآخر وما هو إلا قليل حتى أحاطت بفرقته الصغيرة قوة كبيرة فنازلها ومن معه اشد المنازلة وجاهدها اصدق الجهاد.
وفيما هو كذلك إذ اخترقت صدره العامر بالإيمان رصاصة محشوة بالبغي والعدوان فخر صريعا مضرجا بدمائه ذيادا عن أولى القبلتين ودفاعا عن ثالث الحرمين، وحسب القسام معاده في الدارين إنه وفى إلى ربه راضيا مرضيا، وإنه خلف وراءه ألفا من المجاهدين ظلوا يقاتلون عدو الله وعدوهم بضع سنين وكانوا بداية الجهاد الحقيقي الصادق لأعداء الله على أرض فلسطين في عصرنا الحديث.