بعد قرض المليارات السبعة.. تفسير اندفاع السيسي نحو الاقتراض الخارجي

- ‎فيتقارير

إعلان البنك الدولي الأربعاء 22 مارس 2023م عن موافقته على شراكة جديدة مع نظام الدكتاتور عبدالفتاح السيسي خلال السنوات المالية 2023-2027، ليحصل النظام الذي اغتصب الحكم بانقلاب عسكري في منتصف 2013م بموجب هذه الشراكة على تمويل بقيمة سبعة مليارات دولار، بحسب بيان للبنك، يثير كثيرا من التساؤلات حول دور النظام الدولي في دعم الطغاة والمستبدين في بلادنا العربية من جهة، وأسباب اندفاع السيسي نحو إغراق مصر في مستنقع الديون من جهة أخرى. فقد ارتفعت الديون الخارجية لمصر من نحو 43 مليارا في يونيو 2013م إلى نحو "200" مليار دولار" بنهاية سنة 2023م، بزيادة قدرها نحو "450%"!

فما تفسير اندفاع وهرولة السيسي نحو التوسع في الاقتراض الخارجي وإغراق البلاد في مستنقع الديون؟

تذهب بعض التحليلات للتأكيد على أن هدف الدكتاتور السيسي من إغراق مصر في مستنقع الديون على النحو الجاري حاليا هو دفع الدول الكبرى ومؤسسات التمويل الدولية إلى الارتباط بنظامه والدفاع عنه من أجل استرداد هذه الديون. ومن أهم الدراسات التي أكدت على هذا المعنى  الدراسة التي نشرها معهد كارنيجي للشرق الأوسط للباحث ماجد مندور في أكتوبر 2022م تحت عنوان: «أموال الطغاة يوفرها رعاة السيسي الدوليون».

حسب الدراسة فإن «نظام السيسي يعتمد استراتيجية اقتصادية تؤدّي حكماً إلى تصادم أي مطالب ناشئة بتحقيق الدمقرطة مع المصالح الدولية». بمعنى أن مخططات إغراق مصر في الديون ستجعل الدول الكبرى ومؤسسات التمويل تعارض من الأساس فكرة الديمقراطية في مصر؛ لأن مثل هذه الفكرة قد تهدد مطالب هذه الدول باسترداد ديونها التي دعمت بها نظام مستبدا كنظام السيسي.

فنظام السيسي ـ  حسب الدراسة ـ  «يتبع سياسةً ثابتة تقوم على حجز موقع متجذّر له في المنظومة المالية العالمية من أجل ربط استقراره بالمصالح الاقتصادية للمنظمات الدولية والدول الغربية والشركات الخاصة». يقول مندور: «على الرغم من أن النظام يسوّق لنفسه دولياً بأنه حصنٌ ضد الإرهاب وضد تدفقات الهجرة غير الشرعية، غالباً ما تحجب هذه السردية خلفها استراتيجية اقتصادية يعمل النظام على تطبيقها، إنها سياسة قائمة على الاقتراض الشديد بما يورِّط الفرقاء الدوليين في القمع الذي يمارسه النظام، وعلى الحرمان الاجتماعي المتزايد للطبقتَين الدنيا والوسطى، ما يتسبب فعلياً بزعزعة الاستقرار وظهور التطرف العنفي، لا في مصر فحسب بل من الممكن أن يتسبب بذلك أيضاً في مختلف أنحاء المنطقة».

 

مثلث الحماية

تتألف سياسة نظام السيسي الرامية إلى الاحتماء في المنظومة المالية العالمية ـ حسب الدراسة ـ من ثلاثة مكوّنات:

(أولاً): الاعتماد المتزايد على القروض الخارجية لتمويل العمليات الحكومية ومشاريع البنى التحتية الكبرى، ويشمل ذلك زيادةً في السندات الحكومية وسندات الخزينة القصيرة الأمد، أو "الأموال الساخنة".

(ثانياً): زيادة صفقات السلاح منذ عام 2014 ما جعل من النظام ثالث أكبر مستورد للأسلحة عالمياً بين عامَي 2015 و2019.

(ثالثا): المستوى المرتفع للاستثمارات الخارجية المباشرة في قطاع النفط والغاز المصري يؤدي إلى ربط الاستثمارات الغربية طويلة الأمد باستقرار النظام.

 

تحريم الديمقراطية

وتُشكل هذه العوامل، بحسب الدراسة، أساساً للاعتماد الدولي على نظام السيسي بسبب المصالح المالية. كما تُقدّم أيضاً محفّزات مباشرة للتواطؤ الدولي في القمع وتضع عوائق أمام الدمقرطة. وفي نهاية المطاف، تتسبب هذه الاستراتيجية الاقتصادية بتفاقم التحديات في المدى الطويل مع ما يترتب عن ذلك من آثار مزعزعة للاستقرار على نحوٍ شديد. لذلك تحذر الدراسة من أنه "عندما تُستخدَم تدفقات الرساميل الدولية لتمويل سيطرة الجيش على الاقتصاد المصري، فهي تتيح للجهاز الأمني إحكام قبضته على الدولة".

 

التبعات المالية

تقول الدراسة إن مصر السيسي تعتمد بشدّة على الديون لتوليد أشكال من التبعية المالية بين النظام والفرقاء الدوليين.فقد استدان النظام مبالغ طائلة ما أدّى إلى زيادة حصّة الديون الخارجية في نسبة الدين إلى إجمالي الناتج المحلي من 14.67 في المئة في عام 2012 إلى 31.7 في المئة بحلول الربع الأول من سنة 2020، إذ بلغت 111.3 مليار دولار (وصلت اليوم في مارس 2023م إلى نحو 200 مليار دولار).

وأكدت الدراسة أن تداعيات الاقتراض الشديد ترتب عليها تداعيات وخيمة على مصر والمجتمع الدولي على النحو التالي:

(أولاً): يتسبب الاقتراض بتوغّل النظام عميقاً في المنظومة المالية العالمية، لأن قدرته على سداد ديونه تتوقّف على بقائه، وهذا يجعل النظام بمنأى عن الضغوط الدولية للتخفيف من القمع الذي يمارسه. فمن شأن الاضطرابات في مصر أن تؤثّر مباشرةً في الإيرادات الحكومية، إذ تتراجع قدرة النظام على جباية الضرائب، وكذلك قدرته على إعادة تمويل ديونه، ما يزيد من احتمالات تخلّفه عن السداد.

(ثانياً): يتسبب الاقتراض بتوريط الدائنين الدوليين للنظام في استحواذه على الأموال العامة من أجل إثراء النخب العسكرية من خلال المشاريع الضخمة للبنى التحتية التي تموّلها جهات مالية دولية بطريقة مباشرة وغير مباشرة (ومن هذه الجهات حلفاء إقليميون ومنظمات دولية مثل صندوق النقد الدولي).

ويؤدّي إنفاق النظام مبالغ طائلة على الأسلحة، اعتباراً من عام 2014، دوراً أساسياً في ترسيخ شبكته للأمان الدولي. فقد تضاعف حجم واردات السلاح ثلاث مرات بين عامَي 2014 و2018 مقارنةً بمرحلة 2009-2013، أي إن نسبة الزيادة بلغت 206 في المئة. ولا مؤشرات على انحسار موجة شراء الأسلحة، ففي يونيو 2020، أجرى النظام مباحثات مع إيطاليا بهدف إبرام صفقة كبرى لشراء أسلحة بقيمة 9.8 مليارات دولار.

وصناعة السلاح الغربية هي المصدر الأساسي للأسلحة التي تحصل عليها مصر، وتأتي في رأس القائمة فرنسا وروسيا والولايات المتحدة. وقد لبّت فرنسا منفردةً نسبة 35 في المئة من طلب النظام على الأسلحة بين عامَي 2015 و2019. ولا تشتمل صفقات السلاح على الأسلحة التقليدية وحسب، إنما أيضاً على شراء معدّات مراقبة وأجهزة لضبط الحشود تُستخدَم في القمع المباشر للاحتجاجات.

ويصعب التحقق من مصادر تمويل هذه الصفقات، فهي لا تُدرَج في أرقام موازنة الدفاع الرسمية. ولكن ثمة أدلة عن استخدام القروض الخارجية جزئياً لهذا الغرض. ففي عام 2015 مثلاً، حصلت صفقة سلاح بقيمة 5.2 مليارات يورو، وتضمنت أربعاً وعشرين مقاتلة من طراز "رافال"، على تمويل جزئي بواسطة قرض من الحكومة الفرنسية بقيمة 3.2 مليارات يورو. هذا يعني أن المكلّفين الفرنسيين أقرضوا النظام المصري 3.2 مليارات يورو لشراء الأسلحة، وسوف يسدّد المكلّفون المصريون قيمة هذا القرض مع الفوائد. وفي ذلك دليل على إنفاق أموال عامة مصرية لتمويل أرباح صناعة السلاح الفرنسية. وقد جعلت صفقات السلاح من النظام واحداً من كبار زبائن شركات تصنيع السلاح الغربية، ما يؤدّي فعلياً إلى التداخل بين صناعات الدفاع الغربية وبقاء النظام.

ويترتّب على تحوّل النظام إلى مستورد كبير للأسلحة نتيجتان أساسيتان:

(أولهما): توريط الدول الغربية وصناعتها الدفاعية، التي هي المورِّد الأساسي لأجهزة المراقبة وضبط الحشود، في قمع الاحتجاجات الشعبية.

و(ثانيهما): تعطيل استعداد الدول الغربية لإدانة انتهاكات حقوق الإنسان والتصدّي لها.

وختمت الدراسة أنه بفعل هذه السياسات، أصبح النظام، المستفيد الأساس من انتقال الثروات من الطبقتَين الوسطى والدنيا إلى النخب العسكرية. حيث يُراكِم النظام الأرباح من خلال الفوائد على القروض، وصفقات السلاح، وعائدات النفط والغاز، وجميعها يُموّلها المواطن المصري. أما الأخطر فهو أن هذه السياسات تعرقل أي مطالب ناشئة بتحقيق الديمقراطية لأنها سوف تصطدم بالمصالح الدولية في بقاء نظام السيسي لتحقيقه مصالحهم المالية والاستراتيجية، بما يؤمّن بصورة أساسية بقاء النظام لفترة أطول بكثير مما كان ليصمد لولا هذا الدعم الوافر.