بالأرقام .. تفنيد أكذوبة “الفلسطينيون باعوا أرضهم”

- ‎فيتقارير

في بداية زياراته السبع، ارتحل الثري البريطاني، يهودي الديانة، السير “موسى مونتيفيوري” إلى فلسطين عام 1827، قاصدا استكشاف مواقعها ومعرفة أحوال بني ديانته؛ ليفاجئه واقعهم، بوجود نحو 500 يهودي في حالة مُريعة من الفقر والانحطاط، مُوزَّعين بين تل القاضي شمالا وبئر السبع جنوبا، الأمر الذي أثار حفيظة “مونتيفيوري” وحزنه، ودفعه للتوجُّه إلى الباب العالي للدولة العثمانية، طالبا الإذن بتشييد عدد من الملاجئ لإيواء هؤلاء اليهود المطحونين. لم يستغرق الأمر كثيرا حتى تمكَّن “مونتيفيوري” من تملُّك أول قطعة أرض يهودية في فلسطين، “نتيجة تدخُّل بريطانيا لدى السلطات العثمانية، ليُصدر السلطان فرمانا سنة 1849 يُجيز لليهود شراء الأراضي في الديار المقدسة، ويقوم “مونتيفيوري” بتشييد أول مستعمرة يهودية على أرض تقع خارج سور البلدة القديمة بالقدس، التي لم تلبث أن اعتُرِف بها رسميا من السلطات العثمانية مع صدور قانون استملاك الأجانب عام 1869؛ لتُوضَع بها نواة أول حي يهودي في فلسطين.

وبعد هزيمة رجل أوروبا المريض (الدولة العثمانية) مع الحلفاء النصارى، غزا الإنجليز والفرنجة بلاد الشام، وتوزعت التركة على الحلفاء المنتصرين؛ ووقعت فلسطين من نصيب التاج البريطاني عام 1918. وفي أثناء ذلك، كانت تتردد في الأرجاء رسالة رئيس الوزراء البريطاني “آرثر جيمس بلفور” -ذائعة الصيت- التي أرسلها بتاريخ 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917 إلى اللورد اليهودي “والتر دي روتشيلد” -أحد أضلاع عائلة روتشيلد الثرية- يُشير فيها إلى تأييد حكومة بريطانيا لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، قائلا فيها: “إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية”.

كان الأمر عصيا على التصوُّر؛ لأن تعداد اليهود في فلسطين -بعد الهجرة المفاجئة- يبلغ 50.000 يهودي، بواقع 7.2% من إجمالي عدد السكان، يمتلكون نحو 2.4% فقط من أراضي الأراضي، فأي وطن لهؤلاء؟ ربما يبدو الأمر مُربكا في البداية، وهو ما يؤكده الدكتور “إبراهيم حجازي” في كتابه “الجذور الاجتماعية للنكبة”، إذ بقي مفهوم “الوطن القومي” هذا مُشوَّشا وغير واضح تماما لأهل البلد من العرب الفلسطينيين؛ حتى مضى الأمر في مسيرته التي آل إليها تدريجيا مع الوقت.

ولتسويق المشروع الصهيوني المسيحي الذي ترعاه العواصم الأوروبية وعلى رأسها لندن لاعتبارات دينية تتعلق بعقيدة المجيء الثاني للمسيح، تم ترويج شائعة مفادها أن الفلسطينيين باعوا أرضهم لليهود وذلك لتثبيط المسلمين عن نصرة إخوانهم من أجل ضمان نجاح المؤامرة. شاعت هذه الفرية حتى بين المسلمين؛ فكيف لنا أن نتعامل مع هذا الادعاء؟ هل هذا هو ما أوجد وطنا يهوديا بالفعل في قلب فلسطين؟ هل باع هؤلاء القوم حقا أرضهم ثم تباكوا عليها؟ وباعوا هنا تعني أننا نتحدث عن الأغلبية لا الاستثناءات، أم أن الأمر محض كذبة سريعة الرواج، تحمل من تبرئة الضمائر ما يساعدها على الانتشار؟ هل قامت إسرائيل المزعومة على أرض تملَّكتها حقا، أم أن بريطانيا لم تكتفِ بـ “موسى مونتيفيوري” وحده ليُشكِّل وطن اليهود في فلسطين؟

وراجت شائعة أخرى في العواصم الأوروبية مفادها «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، وهي الشائعة الصهيونية التي روجت لها الأوساط اليهودية والنصرانية على حد سواء، ومن هؤلاء أكبر قادتها كـ “إسرائيل زانجويل” و”ثيودور هيرتزل” وغيرهما، رغم أن قرابة مليون ونصف مليون إنسان كانوا يعيشون على هذه الأرض منذ آلاف السنين.

 

4% فقط باعها الفلسطينيون

استعرض كتاب يهوشع بوراث الشهير “الحركة القومية الفلسطينية من الشغب إلى الانتفاضة” الصادر من فرانك كاس وشركاه في لندن عام ١٩٧٧ وهو المرجع الرئيسي عن الأراضي الفلسطينية؛ حيث قام الكاتب ببحث دقيق في من باع أراض لمن؟! علي مدار تاريخ فلسطين. وسجل بوراث أن أقل من ثلث الأراضي التي اشتراها اليهود اشتروها من فلسطينيين. معظم الاراضي اشتروها من تجار لبنانيين وسوريين ومصريين وشركس (ألبان) وأتراك وغيرهم امتلكوا أراض في فلسطين ولكن عاشوا بعيدا عنها.

واشتري اليهود في فلسطين حتي عام ١٩٤٨ حوالي ٩٠٠ ألف دونم. والدونم يعادل حوالي ربع فدان. أي إن اليهود اشتروا حوالي ٢٥٠ ألف فدان في فلسطين. بالحساب؛ باع الفلسطينيون لليهود أراض مجموعها ثلث من ٢٥٠ ألف فدان أو حوالي ٨٠ ألف فدان، وهي مساحة ليست صغيرة. وأضاف أنه بالنظر لممتلكات اليهود المصريين في مصر والتي اشتروها من مصريين باشوات وغيرهم؛ سنجد انه وفقا لكتاب مايكل فيشباخ “ممتلكات اليهود في الدول العربية” والصادر عن جامعة كولومبيا فإنه بالتقريب امتلك اليهود في مصر حوالي ١٠٠ ألف فدان! أي أن اليهود اشتروا في مصر من المصريين مساحة أرض أكبر من تلك التي اشتراها اليهود في فلسطين من الفلسطينيين. و بطبيعة الحال و بسبب الثقل السكاني و الثقافي كانت مصر الدولة الرائدة للفلسطينيين وغيرهم.

 

اليهود في مصر

بعض كبار تجار وأثرياء مصر كانوا من اليهود، ومنهم؛ بنزايون و عدس وريفولي وكذلك أن توجو مزراحي اليهودي أدخل صناعة السينما في مصر وكاميليا اليهودية وليلي مراد وراقية إبراهيم التي عاشت كيهودية في نيويورك وكانوا جميعا من صفوة المجتمع المصري. وتم افتتاح الجامعة العبرية في القدس عام ١٩٢٥وحضر أحمد لطفي السيد حفل الافتتاح و رئيس الجامعة المصرية وكان مبعوثاً رسميا للحكومة المصرية في حفل الافتتاح (كتاب غادة هاشم تلحمي: فلسطين في الصحافة المصرية من الأهرام حتي الأهالي والصادر عن ليكسنجتون الأمريكية).

وقد اعترض “الإسلاميون” وقتها علي تلك الزيارة و رفض مفتي الديار المصرية وقتها الشيخ محمد بخيت قبول دعوة مماثلة. إذا ماذا يمنع الفلسطينيين من بيع بعض الأراضي لاسيما اقتداء بقيادة مصر؟ خاصة أن مساحة فلسطين حوالي ٢ مليون فدان لا يمثل فيها ٨٠ ألف فدان إلا حوالي 4٪  فقط من جملة أراضيها التي جرى احتلالها من العصابات الصهيونية. إذا فأي من المصريين الذين يزعمون أن الفلسطينيين باعوا أرضهم لإسرائيل لذا لا يستحقون المساعدة، فعليه فقط أن ينظر في المرآة.

 

الأرقام لا تكذب

يقول د. خالد الخالدي – رئيس قسم التاريخ والآثار بالجامعة الإسلامية بفلسطين: «إن كثيراً من أبناء الشعوب العربية قد صدقوا الشائعات التي نشرها اليهود، وروج لها أعوانهم، وأَهمها: “أن الشعب الفلسطيني باع أَرضه لليهود”. وقد تعرضت أنا شخصياً لهذا السؤال مرات عدة، وفي بلدان عربية مختلفة.

وأضاف “بلغت مساحة الأراضي التي وقعت تحت أيدي اليهود حتى عام 1948م من غير قتال أو حرب، حوالي (2) مليون دونم. أي ما يعادل 8.8% من مساحة فلسطين التي تبلغ 27 مليون دونم.. حصل اليهود على تلك الأرض (2 مليون دونم) بأربع طرق هي:

  • أقلية: 650 ألف دونماً حصلوا على جزء منها كأي أقلية تعيش في فلسطين منذ مئات السنين. وجزء آخر حصلوا عليه باستخدام الرشاوي من بعض الأتراك الفاسدين في السلطة أيام الحكم العثماني.
  • منحة بريطانية: 665 ألف دونماً حصل عليها اليهود بمساعدة حكومة الانتداب البريطاني المباشرة. فأعطوهم إياها إما منحة مجانية أو بأسعار رمزية أو هدية خاصة.
  • تفرق الأملاك بعد تقسيم بلاد الشام: 606 ألف دونماً اشتراها اليهود من إقطاعيين لبنانيين وسوريين، وكان هؤلاء الإقطاعيون يملكون هذه الأراضي الفلسطينية عندما كانت سوريا ولبنان والأردن وفلسطين بلداً واحداً تحت الحكم العثماني يُسمى بلاد الشام أو سوريا الكبرى، وعندما هُزمت تركيا واحتل الحلفاء بلاد الشام، قسمت هذه البلاد إلى أربعة دول أو مستعمرات، حيث خضعت سوريا ولبنان للاحتلال الفرنسي، وشرق الأردن للاحتلال البريطاني، وفلسطين للانتداب البريطاني توطئة لجعلها وطناً قومياً لليهود. وهكذا أصبح كثير من الملاك السوريين واللبنانيين يعيشون في بلد وأملاكهم في بلد آخر، فانتهز كثير منهم الفرصة وباعوا أرضهم في فلسطين لليهود الذين دفعوا لهم فيها أسعاراً خيالية.
  • باع أرضه: 300 ألف دونم من فلسطينيين. بالرغم من جميع الظروف التي وضع فيها الشعب الفلسطيني والقوانين المجحفة التي سنها المندوب السامي الذي كان يهودياً في الغالب، إلا أنَ مجموع الأراضي التي بيعت من قبل فلسطينيين خلال ثلاثين عاماً بلغت 300 ألف دونم، وقد اعتبر كل من باع أرضه لليهود خائناً، وتمت تصفية الكثيرين منهم على أيدي الفلسطينيين.

 

فتوى بتحريم بيع أي شبر لليهود

قام أبناء فلسطين خصوصاً في الثلاثينيات من القرن العشرين بجهود كبيرة في محاربة بيع الأراضي، وكان للمجلس الإسلامي الأعلى بقيادة الحاج أمين الحسيني، وعلماء فلسطين دور بارز. فقد أصدر مؤتمر علماء فلسطين الأول في 25 يناير 1935 فتوى بالإجماع تحرِم بيع أي شبر من أراضي فلسطين لليهود، وتعدُ البائع والسمسار والوسيط المستحل للبيع مارقين من الدين، خارجين من زمرة المسلمين، وحرمانهم من الدفن في مقابر المسلمين، ومقاطعتهم في كل شيء والتشهير بهم.

 

السبب الحقيقي لخسارة الأرض

الخسارة الحقيقية لأرض فلسطين كانت بسبب هزيمة الجيوش العربية في حرب 1948، وإنشاء الكيان الصهيوني – إثر ذلك – احتلت عصابات اليهود 77% من أرض فلسطين، وقيام الكيان الصهيوني مباشرة وبقوة السلاح بطرد أبناء فلسطين، والاستيلاء على أراضيهم، ثم باحتلال باقي أرض فلسطين إثر هزيمة يونيو 1967 التي كان بطلها الدكتاتور جمال عبدالناصر ووزير دفاعه الفاسد وشريكه في الجريمة عبدالحكيم عامر، ‘حيث قام الاحتلال الصهيوني بعد انتصاره الساحق على عبدالناصر والعرب بمصادرة ما تبقى من أراضي العرب تحت مختلف الذرائع.

واليوم في منتصف 2023م تقف النظم العربية بجيوشها وشرطتها وحكوماتها في شبه تحالف سياسي  وعسكري من أجل حماية الأمن القومي لإسرائيل والدفاع عن حدود هذا الكيان الاستيطاني ضد أي تحرك محتمل من جانب الشعوب العربية المسلمة لتحرير فلسطين. بل إن معظم هذه النظم تتحالف سيرا وعلانية مع الاحتلال ضد المجاهدين المرابطين في سبيل الله، وينكلون بكل من له موقف معارض لإسرائيل والصهيونية، والذين تمتلئ بهم سجون هذه النظم العسكرية الاستبدادية من أجل أن تبقى إسرائيل عصية على الزوال، يرفرف علمها في زهو فوق أراضينا المحتلة بفعل خيانة النظم والحكام.