كيف تغولت السلطة على المجتمع من محمد علي إلى المنقلب السيسي؟

- ‎فيتقارير

يعتبر العسكر والعلمانيون محمد علي باشا (1805 ـ1849) باني مصر الحديثة وجيشها النظامي؛ فهو أول من أدخل العلمانية بمفهومها الغربي وأتى بالقوانين الوضعية الغربية بديلا لأحكام الشريعة الإسلامية، وهو من أدخل النمط الغربي في الحكم والإدارة والنظام العسكري، وهو أول من حطم الجدار بين مصر والغرب حتى تحولت القاهرة إلى قبلة للغربيين من كل دولة؛  حتى تمكن من إقامة دولة قوية بمفهومها المادي، ولكنها فقيرة بمفهومها الحضاري والإنساني والفكري والأخلاقي، وكان شديد البطش والقمع والطغيان وحكم مصر لأكثر من أربعين سنة بالحديد والنار.

الفارق الجوهريَّ بين مشروع محمد علي التحديثي ومثيله الغربي يكمن في أن النموذج الغربي  تأسس ليُساير الانتقال من الزراعة للصناعة من أجل حسن إدارة الدولة وتحسين رفاهية مواطنيها، في حين تأسست الدولة المصرية الحديثة بدافع طموح عسكري للباشا، في سياق صراعه على النفوذ والسلطة. معنى ذلك أن الدولة الغربية الحديثة تمحورت في نشأتها حول المواطن وسخرت كل إمكانياتها من أجل الشعب وإسعاده وتحقيق الرفاهية له، بينما تمحورت الدولة المصرية الحديثة حول الجيش الذي كونه الحاكم كأداة يوظفه من أجل تكريس حكمه وتوسيع مملكته وقهر شعبه من أجل فرض تصوراته التحديثية التي ارتبطت بالنمط الغربي في شقيه المادي والفكري.

وحين أنشأ الخديوي إسماعيل أول مجلس للوزراء فى البلد (فى أغسطس عام ١٨٧٨) فإنه سمى «مجلس النظار»، لأن مصر آنذاك كانت ولاية عثمانية، وكانت الوزارات ضمن تشكيلات الدولة الرسمية فى إستانبول. أما القائمون على الولايات فقد كانوا مجرد «نظار» يتولون الإشراف على مجريات الأمور المحلية فى ضوء السياسات العليا التى تقررها عاصمة السلطنة. ولم يعرف مصطلح الوزراء فى مصر إلا حين انفصلت عن دولة الخلافة من الناحية الرسمية بإعلان بريطانيا حمايتها عليها فى عام ١٩١٤.

يقول الكاتب الكبير فهمي هويدي في مقاله «شبح شبه الدولة يلوح فى الأفق» المنشور بصحيفة "الشروق"  في غرة مايو 2017م: «منذ ذلك الحين نما جهاز الإدارة فى مصر، وتجاوز كثيرا حدود «السياستنامة» التى وضعها محمد على باشا فى النصف الأول من القرن التاسع عشر ووزع بمقتضاها أنشطة الإدارة العامة للدولة على سبعة دواوين. واقترن نمو جهاز الدولة بعاملين برزا بمضى الوقت. الأول أن نمو أجهزة السلطة توازى مع تراجع وإضعاف مؤسسات المجتمع الأهلى (المدنى بلغة هذا الزمان)، وعلى رأسها نقابات الطوائف التى كانت تضم أصحاب المهن والطرق الصوفية التى أدت دور الجمعيات والأحزاب، والوقف الذى كان يمول النشاط المجتمعى. العامل الثانى تمثل فى غياب السلطة التشريعية التى تنهض بمهمة مراقبة أداء أجهزة الدولة وتكبح جماحها. وهو ما أدى إلى انفلاتها وتغولها، بحيث صار الحاكم له شرعية الحكم وشرعية التدخل فى شئون الجماعات والأفراد. ومن ثم أصبح هو ذاته من يحدد الإطار المرجعي لشرعية تصرفات نفسه وقراراته وتشريعاته (طارق البشرى ــ جهاز الدولة وإدارة الحكم فى مصر)».

الدكتور جمال حمدان فى مؤلفه «شخصية مصر» ذهب إلى أبعد فى تحليله لتاريخ تحكم السلطة فى مصر. إذ بحكم اختصاصه كأستاذ فى الجغرافيا السياسية فإنه أرجع الأمر إلى دور نظام الرى النهرى فى إنتاج ما أسماه «الطغيان الفرعونى» ــ ذلك أن قيام الفرعون على توزيع المياه للرى جعله لا يتحكم فقط فى ضبط النهر وإنما فى ضبط الناس أيضا. وهو ما حول مصر إلى «ضيعة كبرى للحاكم». وصارت الدولة الفرعونية نظاما ديكتاتوريا مطلقا أبعد ما تكون عن الديمقراطية. لذلك ليس صدفة أن مصر الفرعونية لم تشتهر بقانون كبير ولم يعرف فيها إنجاز قانونى له شأن، من مثل حمورابى أو الرومان.

وأضاف الدكتور حمدان أن الحكم الأوتوقراطى المطلق أدى وظيفته فى البداية، حيث وضع أسس الحضارة المصرية وأرسى دعائمها، غير أنه لم يلبث أن تعدى نفسه إلى القهر السياسى والاجتماعى. «لقد انبثقت الدولة عن المجتمع لكنها وضعت نفسها فوقه»، ومن ثم فإنها تحولت من قوة قهر إلى قوة بطش. ولخص فكرته فى قوله إن الطغيان الفرعونى جاء نتيجة حتمية للدولة المركزية. وكانت الدولة المركزية ضرورة حتمية للبيئة الفيضية (التى تعتمد فى الزراعة على فيضان النيل). وفى النتيجة أصبحت العلاقة عكسية بين المواطن والدولة. فتضاءل حجم الشعب بقدر ما تضخم وزن الحكم، وكلما كبرت الحكومة صغر الشعب.

ويعلق هويدي على ذلك بقوله «كأن الدكتور جمال حمدان كان يحلل أوضاع مصر المعاصرة. وهو ما لم يختلف معه المستشار البشرى الذى أفرد فصلا تحت عنوان «علم الاستبداد والطغيان» فى مؤلفه «مصر بين العصيان والتفكك» الذى طبع عام ٢٠١٦، كما أفرد فصلا آخر تولى فيه تشريح ما أسماه «شخصنة الدولة»، بمعنى ربط مصيرها بإرادة شخص أو فئة ضيقة منغلقة على ذاتها. وتلك مفاتيح مهمة لقراءة الكثير من صفحات الماضى والحاضر فى مصر».

فى الوقت الراهن، فإننا نلحظ ظواهر ثلاثا موصولة بتلك الخلفية هى:

أولا، اختفاء دور المؤسسات المستقلة (القضاء ـ البرلمان ـ الجهاز المركزي للمحاسبات ـ الإعلام ـ البنك المركزي ـ الأزهر) الذى يتجلى فى صورة عدة. بينها الإبقاء على وجودها مع التحكم فى إدارتها بما يحقق إلحاقها عمليا بالسلطة التنفيذية. منها أيضا استمرار الإبقاء عليها مع نزع اختصاصاتها بما يؤدى إلى تفريغ وظيفتها من مضمونها. منها كذلك الحفاظ على وجودها القانونى للحفاظ على الشكل الديمقراطى، ثم إنشاء مؤسسات موازية تابعة مباشرة للسلطة تقوم بمهامها.

ثانيا، استخدام سلطة التشريع لتقنين الإلحاق وتشديد قبضة السلطة، من خلال النص على انفراد رئيس الدولة باختيار ليس فقط أركان وقيادات السلطة التنفيذية التى يرأسها، وإنما أيضا تعيين رؤساء المؤسسات «المستقلة». بما يلغى دور قواعد المجتمع فى اختيار القيادات التى تمثلها فى مختلف مكونات الدولة. وبطبيعة الحال فإن الدور الحقيقى فى الترشيح والاختيار لتلك الشريحة الواسعة من القيادات تقوم به الأجهزة الرقابية والأمنية، ويظل دور رئاسة الدولة مقصورا على الترجيح بين من ترشحهم تلك الأجهزة. وهو ما يعنى أن تلك الأجهزة الرقابية والأمنية تصبح بمضى الوقت هى الجهة المهيمنة على المجال العام.

الظاهرة الثالثة فى السياق الذى نحن بصدده تتمثل فى أن النزوع إلى التحكم فى مصائر المجتمع يؤدى إلى الانتقال التدريجى من فكرة الدولة إلى صيغة السلطنة. والدولة تقوم على المؤسسات ويحكمها القانون، والسلطنة محورها شخص السلطان وتديرها أذرعه المختلفة التى تأتمر بأمره وترهب المجتمع بصولجانه. وهو مآل يقربنا من حالة «شبه الدولة» التى جرى الحديث عنها مرارا فى مصر إلا أنها حالة لا تنصرف إلى الماضى، لأنه تصنع على أيدى القائمين على الأمر فى الحاضر وتلوح ضمن خيارات المستقبل.

ما نشهده فى مصر يقدم ما لا حصر له من النماذج التى تدلل على صحة ذلك. خصوصا ما شهد به الدكتور جمال حمدان عن العلاقة العكسية التى بين السلطة والمجتمع بحيث يتضاءل حجم الشعب ويصغر حجمه، كلما تضخم وزن الحكومة. ويكاد مجلس النواب يكون التجسيد الأوضح لتلك الحالة. إذ فى حين يفترض أنه من الناحيتين القانونية والسياسية بمثابة مجلس الشعب المنتخب، إلا أن التجربة العملية أثبتت أنه مجلس الحكومة بامتياز. ومن ثم صار وجوده تعبيرا عن تضخم حجم الحكومة وتضاؤل حجم الشعب.

الحاصل مع القضاة نموذج آخر، ففى حين كان التقليد المتبع أن الجمعيات العمومية هى التى تنتخب رؤساءها وفقا لأعراف مستقرة منذ عقود، فإن قانون السلطة القضائية الذي أقره السيسي في 2017م ألغى دور الجمعيات العمومية وجعل رئيس الجمهورية هو من يختار أولئك الرؤساء من بين ثلاثة ترشحهم الهيئة المعنية. وبدلا من أن تنتخب الجماعة الصحفية رؤساء المجالس التى تدير المهنة، فإن الرئيس صار من يقرر تشكيل تلك المجالس ويختار رؤساءها.

ذلك كله يحدث فى مؤسسات وهيئات يفترض أنها «مستقلة»، مجلس النواب والقضاء والأزهر والإعلام والجامعات وصولا إلى الجهات الرقابية. وكل ذلك التغول يتم بالقانون الذى أصبح إصداره خاضعا فى كل مراحله لنفوذ السلطة ووصايتها المباشرة. النتيجة أن «هذا البلد بملايينه من البشر، بزراعته وصناعاته واقتصاده وبخبراته العلمية والفنية والثقافية، ونظم إدارته الحديثة وأجهزته الإدارية والأمنية والسياسية، وبمؤسساته وجامعاته ومدارسه، هذا البلد بكل سعته وتعدده وتنوعه وشموله وتراكم خبراته أصبح ينحصر ويلملم لتمسك به قبضة رجل واحد. لكن قبضة الرجل الواحد على رقبة ذلك الجسم الكبير لا تمسكه وإنما هى تخنقه وتميته» حسب توصيف الدكتور طارق البشرى فى كتابه «مصر بين العصيان والتفكك».