فرض نظام الدكتاتور عبدالفتاح السيسي الصمت النسبي على جميع وسائل الإعلام المصرية التي تفرض أجهزة السيسي الأمنية وصايتها على كل ما يبث أو ينشر بها، حيال الكارثة المروعة التي وقعت صباح الأربعاء 14 يونيه 2023م؛ حيث لقي ما لا يقل عن 78 شخصا مصرعهم، ولا يزال المئات مفقودين في غرق مركب مصري للهجرة غير المنظمة في المياه الدولية جنوب غرب اليونان، في الوقت الذي تمكنت فيه السلطات اليونانية من إنقاذ نحو 104 شخص.
وقالت مصادر برلمانية مصرية إن أعضاء مجلسي النواب والشيوخ تلقوا تعليمات من رئيسي المجلسين، السبت 17 يونيو2023م، تفيد بعدم التعقيب على حادث غرق مئات من المهاجرين غير النظاميين، الغالبية منهم من مصر، قبالة الساحل الجنوبي الغربي من اليونان، صباح الأربعاء الماضي. وتضمنت التعليمات عدم إصدار بيانات عاجلة أو طلبات إحاطة من النواب عن الحادث، لا سيما من أعضاء لجنتي العلاقات الخارجية في المجلسين، بدعوى أن وزارة الخارجية هي الجهة الرسمية المنوط بها التعليق على مثل هذه الحوادث.
وقال مصدران يونانيان مطلعان على تحقيقات الشرطة، بناءً على روايات حوالي 30 ناجيًا، إن سفينة الصيد القديمة جاءت بالأساس من مصر ثم غادرت من طبرق بشرقي ليبيا، في وقت مبكر من يوم 10 يونيو الجاري. ودفع الأشخاص ما يتراوح بين 4500 و5000 دولار للهجرة إلى إيطاليا. وحجز بعضهم رحلاتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بحسب مسؤول في وزارة البحرية اليونانية، وإفادات ذوي المهاجرين. وقالت تلك المصادر إن المهربين وعدوا بتوفير مساحة كافية على متن السفينة، لكن بمجرد وصول الركاب إلى نقطة المغادرة المقررة ورأوا أنها مكتظة، كان من المستحيل العودة إليها. واعتقل تسعة من بين الناجين من الكارثة، الخميس الماضي، في ميناء كالاماتا الساحلي باليونان، وذلك للاشتباه في أنهم من مهربي البشر. ويواجه المقبوض عليهم، وهم من مصر، اتهامات بتشكيل منظمة إجرامية، والتسبب في القتل الناجم عن الإهمال، حسبما ذكرت «دويتشه فيليه».
صمت الإعلام السيساوي
الأجهزة الأمنية تحكمت في صياغة تناول الموضوع على نحو يخفف من وقع الكارثة إعلاميا بوصفها كارثة تمس عدة دول رغم أن المركب مصري وغالبية الضحايا مصريون. ويتضح ذلك جليا في صياغة النعي الذي أصدرته وزارة الخارجية بحكومة الانقلاب؛ حيث ركزت على أن المركب انطلق من أمام السواحل الليبية صوب أوروبا، وعليه المئات من المهاجرين غير الشرعيين من جنسيات مختلفة من بينهم مصريون. وأشار النعي إلى تكليف السفارة المصرية بالعاصمة اليونانية آثينا، بمتابعة الضحايا والناجين والتأكد من هوية المصريين منهم. كما تضمن بيان الخارجية إدانتها بأشد العبارات، استمرار قيام العصابات المنظمة لجرائم الهجرة غير الشرعية باستغلال حاجة البعض ممن يبحثون عن فرص أفضل للحياة والعمل، معرضةً حياتهم لمخاطر الموت وفقدان الأمل.
وللحفاظ على الدعم الأوروبي للنظام بشأن منع الهجرة غير النظامية؛ أشار بيان الخارجية إلى أن الحكومة في مصر اضطلعت بإجراءات حاسمة على مدار السنوات الماضية؛ لوضع قوانين رادعة لمواجهة جريمة الهجرة غير الشرعية وكل من تسول له نفسه الانخراط في تنظيمها أو تيسيرها، بالإضافة إلى ما تم اتخاذه من إجراءات لضبط الحدود تمنع خروج مهاجرين غير شرعيين عبر السواحل المصرية. وفي ختام البيان تقدمت الخارجية بالعزاء والمواساة لأسر الضحايا دون أن يشير إلى أن المركب مصرية ومعظم الضحايا من المصريين الفارين من بؤس الأوضاع في بلادهم بعدما سحقتهم سياسات السيسي ونظام وأفقرتهم على نحو غير مسبوق.
الأرقام مفزعة
مع مرور الساعات انكشفت الحقائق التي حاول بيان الخارجية إخفاءها؛ وكشف الإعلام الاجنبي كل التفاصيل المتاحة عن الكارثة؛ الأمر الذي أجبر حكومة الانقلاب على التعاطي الخجول مع الأرقام المرعبة للكارثة، في ظل إلزام الفضائيات والصحف والمواقع بتناول الموضوع بشكل هامشي ودون ربطه بمصر رغم أن معظم الضحايا مصريون.
بيان الخارجية صدر يوم الجمعة، في اليوم التالي" السبت" أوضحت وزيرة الهجرة بحكومة الانقلاب السفيرة سها جندي، أن إجمالي عدد من كانوا على المركب يتراوح ما بين ٤٠٠-٧٥٠ من جنسيات مختلفة، وإجمالي عدد المصريين الناجين ٤٣، منهم (٥ قُصر، ٣٨ رجلا)، وأنهم شباب ما بين ٢٠-٤٠ سنة من البالغين المصريين. وأضافت أن إجمالي من تم إنقاذهم ١٠٤ من الجنسيات الأخرى التي تم إنقاذها: (١٢ باكستانيًا، ٤٧ سوريًا، 2 من دولة فلسطين).
لكن العبارة الغامضة والمخيفة في تصريحات وزيرة الهجرة أن «عدد المفقودين من المصريين غير محدد، لأن الحادث كان فى مياه عميقة جدا، ويتم متابعة الموقف أولا بأول»! ولم تشر الوزيرة إلى أن معظم هؤلاء من الأطفال والنساء. وأضافت أن هناك ٨ أشخاص يتم التحقيق معهم، ووجهت لهم تهمة تنظيم هجرة غير شرعية، والتسبب فى قتل ضحايا والانتماء لمنظمة جريمة منظمة وهم رهن الاعتقال.
الحادث ليس الأول من نوعه، بل تكرر كثيرا خلال الشهور والسنوات الماضية؛ ففي نوفمبر 2022م، لقي 17 شابا مصريا من قرية كوم زمران بمركز الدلنجات بمحافظة البحيرة في أعقاب غرق مركب هجرة غير نظامية في المياه الإقليمية اليونانية. وتضاعف العدد لاحقا في ظل صمت إعلامي ورسمي من جانب الآلة الإعلامية لنظام السيسي؛ فلم ينج من المركب سوى "20" شخصا فقط من أصل 69 من أهالي القرية. وأقيم سرادق عزاء ضخم لكل أهالي القرية الذين فقدوا نحو 50 من شبابهم الذين فروا من بؤس الأوضاع في مصر على أمل البحث عن حياة جديدة وأمل جديد في بلاد أخرى.
وكانت المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة، أعلنت، منتصف إبريل 2023م، أن الربع اﻷول من العام الجاري (2023) شهد غرق 441 مهاجرًا في البحر المتوسط، إضافة إلى 300 مهاجر في عداد المفقودين، في أكبر حصيلة ضحايا تُسجل لعمليات الهجرة غير المنظمة، في ذات الفترة، منذ ست سنوات. وصرح المدير العام للمنظمة، أنطونيو فيتورينو، بأنهم سجلوا غرق أكثر من 20 ألف مهاجر في البحر المتوسط خلال السنوات التسع الماضية. وكانت الحكومة الإيطالية اليمينية أعلنت، في 12 أبريل 2023م، حالة الطوارئ لمدة ستة أشهر لمواجهة الهجرة غير المنظمة، مستبقة موسم تدفق المهاجرين عبر البحر المتوسط. الخطوة التي اعتبرها الباحث في مؤسسة «arca» المعنية باستقبال ودمج اللاجئين في إيطاليا، إبراهيم حجي، أنها «قد تزيد من حوادث غرق المهاجرين عن الأعوام السابقة»، خاصة أن إيطاليا نقطة الوصول الأولى إلى أوروبا للمهاجرين عن طريق البحر المتوسط..