عقب الانقلاب العسكري في مصر 3 يوليو 2013، كان المئات من طلاب وطالبات الأزهر ينطلقون في مظاهرات شبه يومية قاصدين مقر وحدة المخابرات الحربية بشارع يوسف عباس بحي مدينة نصر شرق القاهرة، القريب من جامعتهم (الأزهر) ومدينتهم الجامعية.
في هذه المنطقة التي شهدت سقوط عشرات القتلى منهم على أيدي الجيش والشرطة، على مدار 11 شهرا من مظاهراتهم (منذ ديسمبر 2013 وحتى أكتوبر 2014) تم فجأة اقتطاع جزء من مقر الوحدة الاستخبارية العسكرية، وتحويله إلى مجمع ترفيهي يضم كافيهات ومطاعم شهيرة وسوق تجاري وملاهي أطفال للطبقة الميسورة في مصر.
https://lh3.googleusercontent.com/p/AF1QipM1mhz8eThgrRe1y6xJGaeWom_j8GbjH3EWjC1I=s1360-w1360-h1020
فكرة هذا المجمع الترفيهي باتت شبه مكررة في غالبية دور الجيش ذات الطابع الاجتماعي، من أجل مزيد من البيزنس لصالح الجيش لا الدولة المصرية.
في غضون شهور قليلة، لم يكتف الجيش ببناء مئات الكافيهات والمطاعم أسفل عشرات الجسور والكباري العلوية التي أقامها بصورة مقززة في وسط عادم السيارات، والمملوكة له لا للدولة، ولكنه حول أجزاء من دور أو ديار الجيش التي تقدم خدمات للضباط في الأفرع المختلفة إلى مجمعات ترفيهية للمدنيين كافيهات ومطاعم.
يوجد في مصر قرابة 50 دارا وفندقا تابعة لإدارة النوادي والفنادق للقوات المسلحة، وهي إحدى الإدارات التابعة لوزارة الدفاع المصرية وتختص بإدارة دور وفنادق ونوادي وقرى ومتنزهات القوات المسلحة المصرية المختلفة.
وهي تقدم خدمات ترفيهية لضباط الأسلحة وأسرهم وبعضها يقدم خدماته أيضا للمدنيين في صورة قاعات أفراح أو بيع منتجات الجيش أو كعك العيد ولحوم وغيرها، أشهرها دار الدفاع الجوي والقوات الجوية والمشاة وحرس الحدود والمدرعات والمركبات وغيرها، وأغلبها في القاهرة ولها فروع في بعض المحافظات.
هذا التحول المفاجئ باقتطاع أجزاء من كل دار خدمة عسكرية مخصصة أصلا لضباط الجيش التابعين لهذا الفرع أو غيره من أفرع الجيش وأسرهم، وتأجيرها إلى مدنيين غالبا ما يكونوا من الضباط السابقين أو أبناءهم، لتحويلها إلى كافيهات ومطاعم لأبناء الطبقة الميسورة لارتفاع أسعارها، والذي رصدته الاستقلال، يطرح تساؤلات عدة حول أسباب تغيير إدارة هذه الديار العسكرية لصالح البيزنس.
توسيع بيزنس الجيش
الأمر له علاقة بـتوسيع بيزنس الجيش وما يسميه البعض جشع الجنرالات، حيث لم يكتفوا بتوسيع نشاط الجيش في كافة مناحي الاقتصاد ومنافسة القطاع الخاصة في كل شيء، من مواد الغذاء والبناء والأدوية والصناعة وحتى ألبان الأطفال.
خبراء آخرون لا يستبعدون دور بيزنس الجيش، ولكنهم يشيرون لأن هذا ربما يكون مؤشر لتعظيم موارد الجيش والإدارة المالية له تحسبا لتقليص بعض أرباحه حال إخضاع شركات للجيش لخطة صندوق النقد الدولي التي تطالب بشفافية في التعامل معها، ما يعني إلزامها بدفع ضرائب وأجور خدمات أعاد الجيش التهرب منها بدعاوى الأمن القومي.
ووافق مجلس النواب يوم 12 يوليو 2023 نهائيا على مشروع قانون بإلغاء الإعفاءات الضريبية الممنوحة لبعض الشركات والكيانات التابعة للدولة.
الوضع السابق كان ينص على أن تُعفى الشركات التابعة للدولة والقوات المسلحة من دفع مجموعة واسعة من الضرائب والرسوم للحكومة، وهو ما يمنحها ميزة وأفضلية عن القطاع الخاص الذي يكافح من أجل المنافسة.
لكن، التشريع الجديد لن يؤثر على المشروعات التي تتعلق بالدفاع أو الأمن القومي، أو المشاريع الأساسية وستُعفى تلك المشروعات من كل الضرائب والرسوم، وهو أمر غامض.
يوم 9 فبراير 2023، قال عبد الفتاح السيسي خلال افتتاحه للمرة الثانية مشروع مصنع حلويات ومخبوزات تابع للجيش، إن “الشركات التابعة للجيش المصري لا تُفضل عن غيرها وتدفع مستحقات الدولة من ضرائب وفواتير الخدمات”.
https://twitter.com/AJA_Egypt/status/1623682918970187777
وجه سؤالا مصطنعا لرئيس جهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة اللواء أركان حرب وليد حسين أبو المجد، هل تدفعون فواتير كهرباء وضرائب مشاريعكم؟.
فرد اللواء أبو المجد، مؤكدا دفع الجيش 14 مليار جنيه للخدمات والضرائب عن العام المالي 2022.
قال: “تم تسديد 14 مليار جنيه، منهم 6 مليارات جنيه للكهرباء و3 مليارات جنيه للغاز، 4.5 مليار جنيه للضرائب عن حصيلة نشاط شركاته الصناعية الضخم ومشاريعه، والباقي للمياه وغيرها من المصروفات.
أثار هذا سخرية نشطاء، بينهم الكاتب الليبرالي العلماني إسماعيل حسني، لأنه سبق أن نشرت صحف عن التهرب الضريبي لشركات الجيش وتم مصادرتها حينئذ.
https://twitter.com/IsmailHosny1/status/1624079572776935426
حديث السيسي ورئيس جهاز مشروعات الجيش الذي بدا كتمثيلية محبوكة، واعتبره مصريون هري موجه لصندوق النقد الدولي لا للمصريين، بعد طلبه تقليص حصة الجيش في البيزنس والاقتصادي عموما، لأنهم يعرفون جيدا أن الجيش والشرطة وجهات سيادية أخري لا يدفعون ضرائب.
https://twitter.com/JokerMAMIG/status/1623894649327824896
أكدوا أن تصريحات السيسي كاذبة لأن الجيش لا تراقبه أي جهة رقابية أو مالية، ولا أحد يعلم حجم بيزنس الجيش ولا مكاسبه حتى يتم تحديد الضريبة عليه.
https://twitter.com/AasrSherif/status/1624105736493051904
وكان الجهاز الوحيد الذي بدأ يحاول مراقبة ميزانيات الجيش والشرطة والمخابرات وغيرها، وهو جهاز المحاسبات، عقب ثورة يناير 2011 تعرض لعرقلة نشاطه وانتهى به الأمر لاعتقال وسجن رئيس هشام جنينه.
وكان ملفتا حين سأل السيسي المسئول العسكري، هل أنتم بتدفعوا كهرباء ومية وتكلفة الخدمات اللي بتأخذوها من الدولة ولا لأ؟ وبتدفعوا ضرايب ولا لأ؟ اللواء أبو المجد قال ضمن حديثه إن جهاز مشروعات الخدمة الوطنية خاضع لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات، والأجهزة الرقابية بالقوات المسلحة.
وهو ما يعني أن الجيش لا يحاسبه أجهزة مدنية ولكنه أنشأ أجهزة رقابية خاصة به، ما يعني استمرار الغموض والتعتيم على حجم نشاطه الاقتصادية، ومن ثم صحة ما يدفعه من ضرائب وحجمها.
وسبق للسيسي أن أكد 25 أكتوبر 2016 أن الجيش يدفع ضرائب مثل كل مؤسسات الدولة، ومشروعاته يراقبها الجهاز المركزي للمحاسبات، وتسليحه من ميزانيته، بحسب صحيفة المصري اليوم.
وبرر “تدخل القوات المسلحة في الاقتصاد لأن العمل ضخم في ظل البيروقراطية والفساد اللذين نعاني منهما”، وأن “القوات المسلحة ذراع للحكومة لكي تعمل توازن نسبي لحركة السوق في مصر في ظل معاناة القطاع العام”.
https://twitter.com/caeser1977/status/1623740358675800067
وزعم أن اقتصاد القوات المسلحة حوالي من 1 إلى 1.5 % من اقتصاد الدولة، وتسليح الجيش من موازنته وليس من الدولة، وكلها تصريحات كذبتها تقارير دولية.
وفي 10 مارس 2015، نشرت “صحيفة الوطن” حين كانت مملوكة لرجل الأعمال الراحل محمد الأمين، واشترتها لاحقا شركة المخابرات المتحدة تقرير حول تهرب 13 جهة سيادية مصرية، أغلبها عسكرية، من سداد الضراب للدولة.
لكن الصحيفة لم تر النور، وتم فرم أعدادها وطباعة عدد جديدة وحذف موضوع تهرب الجهات السيادية بينها الرئاسة، المخابرات، الداخلية، الدفاع، على رأس المتهربين من الضرائب، وأنها لا تدفع ضرائب لموظفيها مما تسبب في إهدار 7.9 مليار جنيه على الدولة.
ورغم أن الضرائب تمثل المصدر الأكبر لإيرادات الموازنة العامة، إلا أن القوات المسلحة المصرية دائما ما تسن القوانين التي تحصنها من يد هذه الضرائب، وكان منها استثناء القوات المسلحة من الضريبة العقارية.
حيث أصدر وزير الدفاع الفريق أول محمد زكي، قرارا حمل رقم 24 لعام 2019، ونشرته الجريدة الرسمية المصرية يقضي بإعفاء وحدات تابعة للقوات المسلحة من الضريبة المفروضة على العقارات والمنشآت التجارية والصناعية.
وأكد في قراره أن الإعفاء جاء لاعتبارات تتعلق بشؤون الدفاع ومتطلبات الأمن القومي.
وانطبق قرار وزير الدفاع على قرابة الألف منشأة اقتصادية ربحية تابعة للجيش، من بينها المنشآت الاجتماعية والترفيهية التابعة لأفرع القوات المسلحة، وكذلك النوادي الاجتماعية، وقاعات الأفراح والمساجد وقاعات المناسبات، وأرض المعارض الخاصة بالقوات المسلحة، وعلى الشقق والفيلات والوحدات الصيفية والساحات العامة التابعة للجيش.
أيضا شمل القرار أندية رياضية ومنتجعات ومسارح ودور سينما، وكل فروع المجمعات الاستهلاكية التابعة لجهاز الخدمة الوطنية البالغ عددها حوالي 60 فرعا، وفروع لسلاسل سوبر ماركت ومجازر آلية.
وجاء هذا القرار امتدادا لقرار سابق أصدره عبد الفتاح السيسي في 19 أغسطس 2014 تضمن تعديلات على قانون الضريبة العقارية أعفت من تلك الضريبة أندية وفنادق القوات المسلحة، ودور الأسلحة، والمجمعات، والمراكز الطبية والمستشفيات، والعيادات العسكرية، والعقارات المبنية في نطاقها وغيرها من الوحدات التي يصدر بتحديدها قرار من وزير الدفاع بالاتفاق مع الوزير المختص، وهي كلها منشآت تدر أرباحا على الجيش وتتعامل مع المدنيين بالإضافة للعسكريين.
إعفاء بيزنس الجيش
ويشير تقرير سابق لمعهد كارنيجي بعنوان ( حرب السيسي على الفقراء) نشر 23 سبتمبر 2020 أن سياسة دعم التوسع في مؤسسات الأعمال العسكرية باستخدام الأموال العامة تشكل ضغوطا إضافية على الطبقات الدنيا والمتوسطة، التي تتحمل الجزء الأكبر من العبء الضريبي.
حيث تخضع إمبراطورية الأعمال العسكرية المتوسعة إلى عدد كبير من الإعفاءات الضريبية، كما أنها محمية من الرسوم واللوائح المتعلقة بالمشتريات المفروضة على الشركات المدنية.
ومن الأمثلة البارزة إعفاء 2016 للأعمال المملوكة للجيش من ضريبة القيمة المضافة، حيث يتمتع الجيش بإعفاءات ضريبية على الأرباح الناتجة عن الفنادق المملوكة للجيش، ومبيعات المواد الغذائية الأساسية، والرسوم الجمركية.
ويؤكد التقرير أن “إعطاء النظام الأولوية للإنفاق على مشاريع البنية التحتية الضخمة التي يقودها ويسيطر عليها الجيش، والتي تعمل بشكل فعال كأداة لتخصيص الأموال العامة، تؤدي مع الإعفاءات الضريبية التي حصلت عليها الشركات المملوكة للجيش، لازدهار بيزنس الجيش على حساب الطبقات الدنيا والمتوسطة، وكذلك على حساب القطاع الخاص المدني، الذي يكافح من أجل المنافسة.
فعلى سبيل المثال، في نوفمبر 2019، ذكر السيسي أن مشاريع قيمتها 200 مليار دولار نفذها الجيش ضمن المشاريع الوطنية خلال السنوات الخمس الماضية، علما أن حجم الناتج المحلي الإجمالي المصري كان 303 مليارات دولار في 2019.
ومن أمثلة هذه المشاريع الضخمة العاصمة الإدارية الجديدة، بميزانية تعادل 58 مليار دولار، يتم تنفيذها من قبل شركة مملوكة بنسبة 51 بالمائة للجيش و49 بالمائة مملوكة لوزارة الإسكان.
ويلعب الجيش أيضا دورا بارزا في بناء البنية التحتية وصيانتها، فعلى سبيل المثال، في ديسمبر 2016، ذكر كامل الوزيري وزير النقل ورئيس الهيئة الهندسية للجيش سابقا، أن الجيش كان مسؤولا عن بناء الطرق وتطوير المشاريع التي توفر فرص عمل لأكثر من مليوني مدني وفرص عمل لأكثر من 1100 شركة.
والفوائد من هذه المشاريع تذهب للجيش وليس المصري العادي، ويتم استخدام هذه المشاريع من قبل الجيش لمزيد من اختراق الاقتصاد وتخصيص الأموال العامة.
ويختم التقرير بتأكيد أن السياسات الاقتصادية والمالية التي يستخدمها النظام تعمل على زيادة الفقر وتحويل الثروة من الطبقات الدنيا والمتوسطة إلى النخب، بالإضافة إلى الطبيعة الاستبدادية للنظام، إذ أن الدعم الدولي الذي يتلقاه على شكل تدفقات رأسمالية وقروض يمكّن جهود النظام من إثراء النخبة التجارية والمؤسسات العسكرية، وكل ذلك على حساب المواطنين.
ويشير لتلقي السيسي 92 مليار دولار بين عامي 2011 و2019 كدعم مالي من الحلفاء الإقليميين ويستمر في اقتراض مبالغ كبيرة من المؤسسات الدولية، وتسمح هذه الأموال للحكومة بمتابعة المشاريع الضخمة والحفاظ على نظام ضريبي تنازلي، يسمح للأعمال المملوكة للجيش بالازدهار، وبالتالي زيادة قوة الجيش وشبكة المحسوبية، كما يحمي هذا الدعم الخارجي الجيش من الرقابة العامة التي تأتي مع زيادة الاعتماد على الضرائب كمصدر للدخل الحكومي.
ويحذر التقرير من “الآثار الخطيرة طويلة المدى لهذا النهج” إلى جانب الفقر المتزايد والحرمان الاجتماعي للمواطن العادي، ما يزيد من تحول النظام الي أكثر قمعية واستبدادية لفرض هذه السياسات القاسية.
ويؤكد أن هذا “سيؤجج تصاعد المقاومة العنيفة للسلطة، حتى ولو لم تتبلور المقاومة في حركة سياسية متماسكة، ومن المحتم أن يرتفع مستوى العنف الاجتماعي، مما يؤدي إلى آثار مزعزعة للاستقرار على المدى الطويل.
أيضا سيؤدي توسع الشركات المملوكة للجيش لزيادة الضغط على القطاع الخاص المدني حيث يكافح من أجل التنافس مع العملاق العسكري، وسيكون لهذا آثار هيكلية طويلة المدى على الاقتصاد والنظام السياسي سيكون من الصعب عكس اتجاهها، مما يؤدي في النهاية إلى انهيار السيسي ونظامه.