ترتب على الانقلاب والمذابح الوحشية التي ارتكبها الجيش طمعا في السلطة عدة لعنات و كوارث وصدمات كبرى؛ تركت جروحا لا تندمل وانعكاسات شديدة الخطورة على مستقبل البلاد؛ وأدخلت مصر نفقا مظلما انعكس على جموع الناس يأسا وإحباطا.
أولا، الانقسام المجتمعي الحاد:
يعد أول هذه المخاطر واللعنات وأكثرها خطورة؛ فقبل انقلاب 30 يونيو والمذابح التي نفذت بوحشية مفرطة، بتحريض من الأمريكان والصهاينة وعواصم خليجية متآمرة على مصر، كان الانقسام سياسيا وهو أمر طبيعي في أي مجتمع، يمكن حله بالحوار والآليات السياسية والديمقراطية المتعارف عليها، والتسليم بنتائج الديمقراطية. لكن الانقسام بعد الانقلاب والمذابح الجماعية تحول إلى انقسام أخلاقي ونفسي واجتماعي؛ فالذين أيدوا الانقلاب قد يزعمون أن هذا كان موقفهم السياسي رغم أنه يخالف أبجديات وأصول العمل السياسي والديمقراطي وحتى نصوص الدستور والقانون بل يخالف نصوص القرآن التي أوجبت طاعة ولي الأمر المنتخب بإرادة الشعب الحرة. لكن أن يقبل هؤلاء بالمذابح والقتل الوحشي والتعذيب والاعتقالات العشوائية التي طالت عشرات الآلاف فهذا ليس خلافا سياسيا؛ بل هو انحياز إلى الذين ظلموا وقد نهى القرآن عن ذلك؛ لأن الذي يفعل ذلك مصيره إلى النار {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ (113)} هود. فالدين دبروا الانقلاب والمذابح من الجيش والشرطة هم (بغاة ظالمون)، والذين أيدوهم هم منحازون للظالمين ما لم يتوبوا. ولتعزيز هذا الانقسام الحاد؛ شنت الآلة الإعلامية للنظام الانقلابي أكبر حملة دعاية سوداء بحق الإخوان والحزب الحاكم الذي تم الانقلاب عليه؛ وجاءت أغنية "انتو شعب واحنا شعب" للمغني علي الحجار لتؤكد الكارثة وبات الشعب شعبين؛ شعب ينتمي للنظام العسكري المسيطر على الدولة، ويمثله الجيش والشرطة ومؤسسات الدولة العميقة، وشعب يدافع عن مصر وثورتها وحق شعبها في صناعة القرار وأن ينعم بنظام حكم رشيد يحكم بالعدل والإنصاف بلا تمييز أو تفرقة، وجلهم من الحركات الإسلامية التي تؤمن بالمسار الديمقراطي والانتخابات كآلية للوصول إلى الحكم. هؤلاء بالملايين وهؤلاء أيضا بالملايين حتى وصل الانقسام إلى كل بيت وكل أسرة وكل عائلة وفي الدووايين الحكومية والشركات وأصحاب المهن الحرة وبات التصنيف السياسي علامة على هذا الانقسام الحاد؛ حتى نجح السيسي ونظامه في لم شمل الشعب من جديد حين فشل في إدارة البلاد على نحو مريع؛ فأصبح الشعب في كفة والنظام العسكري وأجهزته في كفة أخرى.
ثانيا، فقدان الثقة في الجيش ومؤسسات الدولة
ويعد أحد المخاطر واللعنات التي تولدت عن الانقلاب وما تبعه من مذابح وحشية مفرطة، فالانقلاب جعل نصف الشعب على الأقل يكفر بالمؤسسة العسكرية ومؤسسات الدولة العميقة، وتراجعت شعبية المؤسسة العسكرية لمستويات قياسية وغير مسبوقة بعد الانقلاب مباشرة خصوصا وأن الجيش كشف عن وجه قبيح بتوجيه السلاح لصدور الشعب بدلا من الأعداء، ومع مرور الشهور والسنوات؛ ومع فشل النظام في إدارة شئون البلاد، تراجعت شعبة المؤسسة العسكرية على نحو رهيب لم يسبق له مثيل؛ ولم يعد بين المصريين من يثق في هذه المؤسسة تحت الإدارة الحالية.
زاد من حالة الكراهية توجهات احتكارية من جانب المؤسسة العسكرية على مفاصل الاقتصاد وسيطرتها على حوالي 60% من إجمالي الاقتصاد المصري وفق تقديرات مؤسسات متخصصة في الاقتصاد. كل هذه العوامل أفضت إلى تراجع حاد وشديد الخطورة في شعبية المؤسسة العسكرية التي باتت عنوانا للاستبداد السياسي والاحتكار الاقتصادي، والتحالف مع الصهاينة العدو التاريخي اللدود للشعب المصري. كما فقد الشعب الثقة في باقي مؤسسات الدولة، فالشرطة محل كراهية الشعب منذ عقود طويلة لكن المذابح الدموية أكدت لملايين المصريين أنهم أمام مؤسسة يتوجب تطهيرها كاملا وإقامة جهاز أمني جديد على أسس سليمة إذا أرادت مصر النهوض والتقدم وإقامة نظام ديمقراطي سليم. كما فقد الشعب أي ثقة في القضاء المسيس والمؤسسة الدينية الرسمية التي كشفت عن نفاق مزمن متأصل في نفوس قادتها للنظام العسكري السلطوي، أما المؤسسة الكنسية فانحازت لمؤسسة القوة "الجيش والشرطة" على حساب ملايين المسلمين الذين يعيشون مع الأقباط منذ مئات السنين في سلام ووئام دون مشاكل. متناسية أن النظم حتما تتغير ولكن الشعوب لا تتغير وتبقى مواقف الكنيسة الداعم والمحرضة على الانقلاب ثم سفك الدماء شرخا لن يندمل بسهولة على مر العقود والقرون المقبلة، سيولد ملايين المسلمين مدركين أن الكنيسة تنحاز لأي قوة أو تيار ضد المسلمين المطالبين بالشريعة حتى لو كانوا سلميين مؤمنين بالديمقراطية والانتخابات. ولن تزول هذه الصورة المشينة للكنيسة إلا بمواقف مغايرة من قادة الكنيسة يمكن أن تخفف حدة المشاعر جراء غدر الكنيسة وخيانتها للمسلمين.
ثالثا، فقدان الأمل في التداول السلمي للسلطة
ومن اللعنات وأخطر الانعكاسات على مستقبل مصر جراء الانقلاب والمذابح الوحشية التي نفذها الجيش والشرطة، هو غلق باب الأمل في أي تداول سلمي للسلطة، فالانقلاب يمثل رسالة واضحة أن صناديق السلاح والذخيرة هي من تحسم الصراع وليست صناديق الانتخابات وإرادة الشعوب، فمرسي قد انتخب قبل عام من الانقلاب في أنزه انتخابات في تاريخ مصر، ورغم ذلك نظمت المؤسسة العسكرية ومؤسسات الدولة العميقة حشودا مصطنعة بفعل توظيف الخلاف السياسي والتحريض الإعلامي الذي استخدم جميع الوسائل غير الشريفة وغير المهنية وبتحريض من واشنطن وتل أبيب وعواصم خليجية مولت الانقلاب بمليارات الدولارات وكافأت الجنرال السيسي بمئات المليارات من الدولارات على قيامه بهذا الانقلاب السافر والمذابح الوحشية. فبعد 30 يونيو تأسس نظام شمولي استبدادي يستحيل أن يتم تغييره بالوسائل والآليات الديمقراطية، لكن الأكثر خطورة أن ملايين الشباب من الإسلاميين وغيرهم وصلتهم الرسالة؛ فلا مكان لكم في مصر ولا حكمها حتى لو فزتم بثقة الشعب؛ وهو ما أفضى إلى بث الروح في أفكار التنظيمات الراديكالية المسلحة التي لا تؤمن بالديمقراطية أو الانتخابات طريقا للحكم والتداول السلمي للسلطة، فقد فشل مسار الإخوان المؤمنين بالانتخابات ووصلوا لأكثرية البرلمان فانحل بحكم قضائي مشبوه، وسنوا دستورا وافق عليه الشعب بالأغلبية فتم تعليق العمل به وتغييره قبل حتى أن ينفذ، ثم فازوا بالرئاسة فانقلب الجيش عليهم واعتقل الرئيس وأركان الحكومة! فأي سبيل أمام ملايين الشباب حتى يحققوا تصوراتهم التي يحلمون بها في وطن ينعم بالحرية والعدالة وفق مرجعية الشريعة الإسلامية؟!
وبهذا يمكن اعتبار الجنرال السيسي هو القائد الفعلي لتنظيم داعش والقاعدة وبيت المقدس وولاية سيناء؛ فلولا انقلابه المشئوم لماتت أفكارهم المتطرفة التي تراجعت بقوة خلال مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير2011، ولكن السيسي سد النوافذ الديمقراطية والمسارات الطبيعية للتداول السلمي للسلطة؛ فأحيا أفكار القاعدة وداعش وغيرها، وهو بذلك أيضا جعل أفكار الإخوان والحركات الإسلامية المؤمنة بالديمقراطية والانتخابات أمام اختبار قاس، وفقد خطاب الجماعة والحركات المؤمنة بالديمقراطية أي بريق أو ثقة حتى تتشكل ملامح جديدة وفق التطورات الحادثة بعد الانقلاب؛ لذلك لا أمل في عودة الروح لهذا الخطاب الإخواني القديم بالدعوة إلى الاحتكام للانتخابات والشعب إلا بإسقاط الانقلاب حتى يسترد هذا الخطاب قيمته وتأثيره بين ملايين الشباب المحبط اليائس. ـ و«ساهم إسقاط حكومة مرسي المنتخبة في تشجيع النظامين السوري والعراقيّ مما ساهم في انتشار تنظيم «الدولة الإسلامية» ودفع اتجاهات كان «الإسلام السياسي» قادراً على احتوائها نحو التطرّف، يأساً من إمكانيات التغيير الديمقراطي أو انتقاماً لما يحصل في مصر والعراق وسوريا».
رابعا، الغلاء وهروب الاستثمار
الحكم الاستبدادي والمجازر الوحشية والانقسام المجتمعي الحاد، وفقدان الثقة الشعبية في مؤسسات الدولة التي سطت على الحكم عبر انقلاب غير شرعي ، وتأميم الفضاء السياسي والإعلامي واحتكار الجيش لمفاصل الاقتصاد في البلاد، والمذابح الوحشية وعلى رأسها مذبحة رابعة؛ كلها عوامل أدت إلى حالة من الفوضى وعدم الاستقرار لا تزال تضرب بحدة جوانب المجتمع المصري، فأفضى ذلك إلى هروب الاستثمار وتوقف المصانع (نحو 8 آلاف مصنع توقفت) وزيادة معدلات البطالة وتفشي الغلاء الفاحش؛ حيت تراجعت قيمة الجنيه من 7 جنيهات فقط أمام كل دولار قبل الانقلاب إلى 31 جنيها في منتصف 2023م؛ وبلغت نسبة الغلاء في كل السلع والخدمات ما بين 500 إلى أكثر من 1000%؛ فانتشرت الجريمة وبات العنف منهج حياة في تعاملات المصريين ولم يعد الناس يشعرون بالأمان في ظل حالة اليأس والإحباط والخوف من المستقبل ومزيد من الغلاء والتدهور الحاد في مستويات المعيشة.