لهذه الأسباب.. جرح رابعة لن يندمل إلا بعد إقامة العدل والقصاص للشهداء

- ‎فيتقارير

لن يرفع الله اللعنة التي تضرب مصر وشعبها حاليا من غلاء وتدهور المعيشة وسوء الأحوال إلا برفع الظلم وإقامة العدل في الأرض والقصاص لكل الشهداء الذين قتلوا ظلما  منذ ثورة يناير 2011م حتى اليوم، فما تعانيه مصر اليوم ليس إلا ترجمة حرفية لتحذير الله تعالى { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا..}، أما عقابه في الآخرة {.. وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)}، فيتساءل عن سر هذا التحول الذي أصابه: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126)}.

ومن سنن الله في الخلق أن الأمم لا تحيا إلى بالعدل ولا تندحر إلا بالظلم؛ وقد فهم شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية ذلك فقال: «إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة»، فالظلم عواقبه وخيمة، وهو سبب خراب البلاد و هلاك العباد،  كما قال العلامة ابن خلدون في مقدمته؛  فإذا كانت الأمة أو الدولة كافرة ولكنها تحكم بالعدل فيما بينها تقوم دولتهم وتستمر شوكتهم على عدوهم، أما إذا بغى الحكام وجاروا كان ذلك سببا في خراب أمتهم وهلاك شعبهم واستعبادهم على يد عدوهم.

 

جرح لن يندمل

وفي مقاله على موقع "ميدل إيست آي" البريطاني في الذكرى العاشرة لمذبحة رابعة يقول الباحث والأكاديمي الدكتور خليل العناني: «بعد عشر سنوات، لا تزال جراح رابعة لم تندمل. لقد دُمّر نسيج المجتمع المصري الذي كان يُنظر إليه في يوم من الأيام على أنه مرن ومترابط. وتمزّقت الروابط التي كان يُعتقد أنها غير قابلة للكسر واستُبدلت بشعور منتشر من عدم الثقة والانقسام».

ويضيف في أسى: «في ظل هذا الواقع المرير لا يزال قسم كبير من المجتمع أعمى عن الفظائع التي ارتكبت قبل عقد من الزمن وعالقًا في شباك الإنكار. بحماس مثير للقلق، يُمجّدون السلطات المسؤولة عن هذه الأعمال الشنيعة ويشيدون بهم كأبطال ويُصفقون لمُرتكبي مجزرة رابعة، مما يجعل ذكريات الشهداء مؤثرة أكثر». ويتابع: «ألقى جهلهم المتعمّد وتأييدهم للممارسات الوحشية بظلاله على كامل الأمة – وهي ذكرى صارخة بأن ندوب ذلك اليوم المأساوي أعمق من أي ندوب جسدية أخرى. وبينما يتقدّم العالم إلى الأمام، يعتبر هؤلاء المنكرون بمثابة شهادة مؤلمة على صعود قوة من وحي الأوهام وإنكار خبيث للحقيقة».

ويرى العناني أن  «الجهات الوحيدة المستفيدة من ذلك هي السلطات المصرية التي دبّرت هذه النكبة. لقد لعبوا بمكر تلك الاستراتيجية الكلاسيكية "فرق تسدّ"- وهي استراتيجية خبيثة تضرم العداء بين فئات المجتمع مما يؤجج نيران الصراع في صفوفه». وحول تداعيات ذلك يقول: «لقد استسلم جوهر الوحدة، الذي كان يومًا ما حجر الزاوية في المجتمع المصري، لقوى التلاعب المدمرة. انقلبت الجماهير ضد بعضها البعض، في حين تستمتع السلطات بانتصارها المشؤوم. وتعتبر هذه المأساة بمثابة درس صارخ وشهادة مؤلمة للقوة الصامدة لإتقانها الخداع وفن زرع الفتنة».

وفي سياق تفسيره لسبب استمرار الأمة في حالة الإنكار هذه فيما يتعلق بمذبحة رابعة يظلّ لغزا دائما. مضيفا أنه من الواضح أن الانقسامات السياسية والأيديولوجية الراسخة، مثل خطوط الصدع العميقة، تعمق هذا العمى المتعمد. لكن جذور الإنكار أعمق بكثير وتتجاوز عالم السياسة وتتسرب إلى جوهر مجتمعنا. ليصل العناني إلى خلاصة مفزعة بأن وحدة أمتنا التي كان يتم الاحتفال بها في السابق والتآزر أصبحت الآن ملوثة وهشة. استبدلت فسيفساء من القيم المشتركة والهوية الجماعية بالشك وانعدام الثقة. لقد تآكلت الخيوط التي نسجت مجتمعاتنا وجعلتها نسيجًا نابضًا بالحياة، مما جعلنا عرضة للتلاعب والانقسام».

ويتابع في دهشة: «لقد مر عقد من الزمان على تلك المجزرة المشؤومة، ولا تزال جوقة منسقة من المسؤولين تلقي باللوم على الضحايا. تظل الحقيقة مدفونة تحت طبقات من الخداع والتضليل. لم يمثل مرتكبو هذه الفظائع أمام العدالة بعد أو تعرضوا لأي نوع من المساءلة». ويرى إن إفلات الجناة من العقاب «يفتح هذا الظلم الجراح الدامية ويظل بمثابة تذكير قاتم بديناميات القوة المشوهة في السلطة. لا تزال أصداء الطلقات النارية لذلك الصباح تتردد في الذاكرة الجماعية للأمة وفي أسس حكمها. ويرتبط شفاؤنا ارتباطًا وثيقًا باعترافنا بهذا اليوم المؤلم. وحتى تواجه الأمة الحقيقة وتسعى لتحقيق العدالة للذين سقطوا، سيستمر شبح المذبحة حاضرا بشكل مخيف وغير قابل لإسكاته. يمكن للاعتراف بالحقيقة، التي ينبغي تمجيدها، تحويل حتى أكثر الموروثات قتامة».

 

نموذج للقمع

وترى صحيفة الجارديان البريطانية في افتتاحية لها الجمعة 18 أغسطس 2023م بمناسبة الذكرى العاشرة للمذبحة تحت عنوان: (مجزرة رابعة: نموذج لحملة القمع في مصر)، أنه في مثل هذا الأسبوع قبل 10 سنوات، أمر الجنرال عبد الفتاح السيسي "بعد أن استولى على السلطة في انقلاب"، الشرطة والقوات بشن حملة على المتظاهرين العزل في وسط القاهرة. وتضيف أن فض اعتصام رابعة لم يكن مجرد ضربة أخرى للتفاؤل الذي ساد الربيع العربي، بل كان "بداية حقبة جديدة من القمع، حيث أثبت الجنرال السيسي أنه أكثر قسوة من سلفه حسني مبارك. ومذبحة رابعة هي التي حددت قالب طغيانه".

وتستنكر الجارديان إفلات الضابط المتورطين في الجريمة من أي مساءلة أو محاكمة؛ تقول الصحيفة إنه تزداد أهمية تذكر القتلى عندما لا يكون هناك احتمال متوقع للمساءلة عن المذبحة. وتضيف أنه على الرغم من أن منظمة هيومن رايتس ووتش تعتقد أن أعمال القتل الوحشية تشكل جريمة ضد الإنسانية ، لم تجر محاكمة أي فرد من أفراد قوات الأمن بسببها.

وتقول الصحيفة إنه تم سجن عشرات الآلاف من السجناء السياسيين على مدى العقد الماضي، وارتفعت عمليات الإعدام بشكل صاروخي. ولقي العشرات من "الإرهابيين" المزعومين حتفهم فيما تصوره السلطات على أنه إطلاق نار لكن الجماعات الحقوقية تعتقد أنها عمليات إعدام خارج نطاق القضاء. وترى الصحيفة أن التعذيب متفش في مصر. وتقول إن مرسي، الرئيس الوحيد المنتخب ديمقراطيا في تاريخ مصر، توفي أثناء المحاكمة ، بعد سنوات من الرعاية الطبية غير الكافية.

وترى الصحيفة أن هذه هي أسوأ أزمة لحقوق الإنسان في تاريخ مصر الحديث. وتقول إن السيسي يسكت التقارير المستقلة، ويهاجم المجتمع المدني ويقمع المصريين. علاوة على ذلك فإنه  حرص على استبعاد جميع المنافسين ذوي المصداقية عن انتخابات 2018، وتتوقع الأمر ذاته عام 2024م.

وتقول الصحيفة إن السيسي يروج لنفسه في الداخل والخارج على أنه حال دون التطرف الإسلامي وجلب الأمن والازدهار. لكنه حول المدارس إلى قواعد عسكرية في الوقت الذي تكثف فيه السلطات هجومها على المسلحين في شمال سيناء، بينما أصبح الاقتصاد المصري في حالة يرثى لها. وتنتهي الجارديان  إلى أن السيسي أمن سلطته من خلال توسع هائل في الاقتصاد العسكري، وطرد الشركات الخاصة وإثراء أصدقائه. لكنه في الوقت ذاته بدد عشرات المليارات من الدولارات على العاصمة الإدارية الجديدة في الصحراء، وتسبب في مستويات مذهلة من الديون. ورغم ذلك فإن 60%  من المصريين كانوا بالقرب من خط الفقر أو تحته في عام 2019م وهو  الأمر الذي تفاقم بعد جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية؛ لدرجة أن السيسي لا يستطيع أن يبقي الأنوار مضاءة في شوارع القاهرة.