أي راصد ولو مبتدئ لما تعلنه الآلة الإعلامية للنظام العسكري في مصر حول حجم وأعداد الضحايا المصريين نتيجة إعصار دانيال الذي ضرب مدينة درنة الليبية يوم 11 سبتمبر 2023م، يدرك امتناع هذه النوافذ الإعلامية من صحف وفضائيات ومواقع رسمية وخاصة عن ذكر الأرقام الحقيقة لحجم وأعداد الضحايا؛ وآخر رقم تم ذكره على خجل هو نحو 74 مصريا تم استعادة جثامينهم ودفنهم في مقر مولدهم، لكن الرقم تضاعف إلى 145 قتيلا وهو الرقم الذي لا تجد له صدى في وسائل الإعلام الحكومية. لكن الأرقام الحقيقية أكبر من ذلك بكثير.
الرقم القريب من الحقيقة لأعداد الضحايا المصريين ذكرته المنظمة الدولية للهجرة، التي أوضحت أن عدد الضحايا المصريين ارتفع إلى 250 قتيلا، وعدد المشردين في شرق ليبيا بلغ 36 ألف شخص من بينهم 30 ألف شخص في «درنة» وحدها، وبلغ عدد المفقودين 10 آلاف، حسبما نقلت «بي بي سي» عن الهلال الأحمر الليبي، فيما لا تزال الأرقام الإجمالية للضحايا غير مؤكدة.
من جانبه، خاطب رئيس حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، عبد الحميد الدبيبة، النائب العام لفتح تحقيق عاجل في ملابسات انهيار سدي «درنة» والكشف عن أوجه الإهمال التي تسببت في تفاقم الكارثة. واعتمد البرلمان الليبي في بنغازي، ميزانية طوارئ للمدن المنكوبة بقيمة 10 مليارات دينار ليبي، وذلك لإعادة الوضع إلى طبيعته خلال ستة أشهر. فيما خصصت منظمة الصحة العالمية مليوني دولار، لدعم عمليات الإنقاذ في شرق ليبيا مع استمرار وصول المساعدات الدولية إلى مدينة بنغازي.
حفتر هو المسئول
وحسب تقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية فإن المئات من أهالي درنة تظاهروا بعد أسبوع من الكارثة من أجل محاسبة المسئولين الذين تسببوا بإهمالهم في تفاقم الكارثة؛ وهتفوا “عقيلة برة برة” في إشارة إلى رئيس البرلمان حليف الجنرال الانقلابي خليفة حفتر الذي يحكم شرق ليبيا بالحديد والنار. لكن عدم الهتاف ضد حفتر نفسه دفع محللين إلى تفسير ذلك بالخوف من القمع المفرط لحفتر ومليشياته الذين لا يتسامحون مطلقا مع أي معارضة للجنرال، فكان الهتاف ضد عقيلة صالح يتضمن الهتاف ضد الحلف كله الذي يضم حفتر وعقيلة صالح بدعم مصري إماراتي روسي فرنسي.
وكان عقيلة قد تنصل من المسئولية عن الكارثة ووصفها بأنها “قدر”. وفي خطاب متلفز مساء الخميس 14 سبتمبر، بدا وكأنه يرفض الاتهامات بأن حجم الكارثة يرجع إلى سوء إدارة الحكومة وإهمالها، الأمر الذي أثار غضب العديد من الليبيين. وكانت هتافات المتظاهرين جزءا من دعوات كثيرة متزايدة لمحاسبة القادة في جميع أنحاء ليبيا. وعلى وجه التحديد، يطالبون بإجراء تحقيق دولي في الظروف التي أدت إلى انفجار السدين على أطراف درنة.
وأشار تقرير نيويورك تايمز إلى أن السدود التي تحمي درنة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، كانت تحتاج إلى صيانة أو أنها غير كافية لمواجهة العواصف التي تضرب البلاد. لكن يبدو أن السلطات الليبية تجاهلت التحذيرات بشأن الخطر. وفي بحث نشر العام الماضي، حذر عبد الونيس عاشور، المهندس الهيدروليكي بجامعة عمر المختار في ليبيا، من أن درنة “معرضة بشدة لمخاطر الفيضانات”، لأن العواصف التي شهدتها المنطقة في العقود الأخيرة يمكن أن تؤدي إلى انهيار السدود. وقال عاشور في ورقته البحثية إن السدود استخدمت تصميما غير مناسب وتم بناؤها من قبل مهندسين قللوا من كمية الأمطار المتوقعة. وأضاف أن المسؤولين الحكوميين كانوا على علم بأن السدود بحاجة إلى إصلاحات، لكنهم تجاهلوا التحذيرات، بما في ذلك التحذيرات التي أطلقها هو.
وفي عام 2010، بدأت شركة تركية أعمال إصلاح السدود. لكن بعد أشهر، عندما بدأت انتفاضة الربيع العربي، توقف العمل، وفقا للنائب العام الليبي صادق السور. وأظهر تقرير لعام 2021 لمدققي حسابات الدولة الليبية أن أكثر من 2.3 مليون دولار مخصصة لصيانة السدين لم يتم استخدامها مطلقا.
وفي حين أصدرت هيئة الأرصاد الجوية الليبية تحذيرات مبكرة بشأن الأمطار الغزيرة والفيضانات، إلا أنها لم تعالج المخاطر التي تشكلها “السدود القديمة”، حسبما قالت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، وهي وكالة تابعة للأمم المتحدة. وقالت الوكالة إن قدرات خدمة الأرصاد الجوية الليبية كانت محدودة بسبب “ثغرات كبيرة في أنظمة الرصد لديها” وكذلك تكنولوجيا المعلومات لديها. وقال بيتيري تالاس، الأمين العام للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، للصحفيين في جنيف: “كان بإمكاننا تجنب معظم الخسائر البشرية”.
عدالة مفقودة
وعينت السلطات فريقا من المدعين الليبيين من مختلف أنحاء البلاد للتحقيق في أسباب انهيار السدين وتحديد ما إذا كانت إجراءات الصيانة، التي كانت مطلوبة لسنوات، كان من الممكن أن تمنع انهيار السدين. وتعهد النائب العام في مؤتمر صحفي متلفز مساء الجمعة 15 سبتمبر، بأن “كل من أخطأ أو أهمل أو قصر وتسبب في هذه الكارثة، ستتخذ بحقه إجراءات صارمة”. وقال الحصادي، خبير الأرصاد الجوية، إن النائب العام أجرى العديد من التحقيقات من قبل ولكن لم يؤد أي منها إلى العدالة. وقال ماثيو بروباشر، المستشار الاقتصادي السابق لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا: “إحدى مشاكل محاسبة الأشخاص هي أن هذه المشكلة تعود إلى زمن بعيد جدا”. وتساءل: “أي من الحكومات المتعاقبة التي وصلت إلى السلطة ستحاسبها على ذلك، خاصة عندما تكون لديك حكومات مجزأة؟”.
حفتر يعزز نفوذه
وأمام تنصل حفتر ومقربيه من المسئولية وإفلاتهم من المحاسبة بشكل مؤكد، يعمل الجنرال الذي يفرض نفوذه على شرق ليبيا التي تضم مدينة درنة المنكوبة على تعزيز نفوذه حسب تقرير آخر لنيويورك تايمز؛ حيث يعمل الجنرال على التحكم في شحنات الإغاثة الدولة التي تصل إلى الشرق الليبي.
وحسب الصحيفة الأمريكية فإن سيطرة أمير الحرب الليبي خليفة حفتر على جهود الإغاثة بعد الفيضان المدمر الأسبوع الماضي قد تكون فرصة له لكي يعزز من موقعه في الشرق الليبي، مركز إعصار دانيال إلى جانب سيطرته على المنشآت النفطية. وأضاف التقرير أنه بعد أيام من الأمطار الغزيرة التي أدت إلى انهيار سدين وتدفق المياه التي جرفت أجزاء كبيرة من مدينة درنة وألافا من سكانها للبحر، جاء حفتر إلى المدينة في زيارة خاطفة”. وتابع، “حفتر الذي انشق عن القذافي وظل رصيدا مهما لوكالة الاستخبارات الأمريكية، شوهد وهو يتجول في درنة، ثم غادرها بالمروحية”. وأوضح “أن الكارثة التي ضربت درنة في 11 سبتمبر أدت إلى إثارة الإنتباه الدولي إلى حفتر وما يطلق عليه الجيش الوطني الليبي، الذي يسيطر على الشرق في ليبيا المقسمة بيد من حديد. وعقب أسبوع من الكارثة، تحولت جهود الإنقاذ إلى العمل الطويل والمكلف للعناية بالمشردين ومساعدة المدينة على التعافي، فقد أكد حفتر أنه سيكون الحكم الأول والنهائي في عمليات الإغاثة بالبلد الغني بالنفط.
وأشار التقرير إلى “أن تحركات حفتر جعلت الذين يراقبونه ومنهم الذين قضوا وقتا معه في حالة عصبية، فهو يشرف على ديكتاتورية عسكرية فعلية تتنافس على السلطة مع الحكومة المعترف بها دوليا في طرابلس، كما أنه أثرى نفسه وأبناءه في وقت فشل فيه بتقديم الخدمات الأساسية وصيانة البنية التحتية مثل السدين اللذين انهارا الأسبوع الماضي”.
ونقل التقرير عن طارق المجريسي، الزميل بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية قوله، “إن ملخص الرسائل التي يريد حفتر إيصالها، أنه المخلص ويجب ألا يلام على ما حدث”. وأضاف المجريسي، أن “حفتر هيمن على عمليات الإغاثة والإنقاذ، حيث نشر العسكر في درنة، ليظهر كمن يقوم بتأمين المدينة، كما منح حفتر أبناءه أدوارا مهمة في بنية السلطة، أحدهم، الصديق، يقدم نفسه كسياسي وهناك صدام الذي يقود ميليشيا قوية تابعة لحفتر ويشرف على عمليات الإغاثة في درنة”. وخلال الأيام الأخيرة، منعت قوات حفتر الصحفيين الأجانب من دخول شرق ليبيا، لتغطية الأزمة وحدت من حركة الصحفيين الذين دخلوا إلى هناك، كما أقيمت نقاط التفتيش على مداخل المدينة، وفق التقرير.
ومن وجهة نظر ولفرام لاتشر، من المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية “فإن إدارة حفتر تركز أولا وأخيرا للسيطرة على المناطق والقمع وهي أيضا إدارة تحاول الحصول على أكبر قدر من المصادر من هذه المناطق. وأضاف لاتشر للصحيفة، “أن قوات حفتر مولت نفسها من تهريب المخدرات والبشر وتفكيك البنى التحتية لبيعها في الخردة، إلى جانب الحصة التي يحصل عليها حفتر من الموارد النفطية”. من جانبه قال تيم إيتون، الباحث في تشاتام هاوس، “إن السبب الذي وصلنا فيه إلى هذه المرحلة هو عدم وجود حكومة فاعلة في ليبيا، وعليه فالأموال التي كانت ستنفق على الحكم أُنفقت على قوات حفتر”. وأكد كاتب التقرير، أن تورط حفتر بالحرب لم يحوله لمنبوذ دولي، فقد حظي بدعم عسكري من روسيا والإمارات ومصر واستقبله المسؤولون الغربيون، ما أغضب الليبيين الذين رأوا بالإحتفاء به تمكينا لسياسيين فاسدين وغير منتخبين.