لائحة الاتهامات الفيدرالية الموجهة للسيناتور الديمقراطي روبرت مينينديز، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، التي تفجرت قبل أيام، تضمنت اتهام خمسة مسئولين كبار بحكومة الانقلاب العسكري في مصر، لم تكشف عن هوياتهم، مكتفية بالإشارة أحيانًا للجهات التي انتمى إليها ثلاثة منهم تواصلوا مع مينينديز وزوجته مباشرة أو عبر رجل الأعمال المصري الأمريكي وائل حنا، رئيس مجلس إدارة الشركة المصرية الإسلامية «ISEG»، التي احتكرت إصدار شهادات توريد اللحوم الحلال الأمريكية لمصر، ورجلي أعمال آخرين خوسيه أوريبي، وفريد دعيبس، وكلاهما مقرب من حنا؛ وذلك لتقديم السيناتور خدمات لحكومة الدكتاتور عبدالفتاح السيسي فيما يتعلق بالاتهامات الأمريكية في مجال حقوق الإنسان وصفقات السلاح، مقابل رشاوى نقدية وذهبية وأقساط تمويل عقاري وسيارة فاخرة قدمتها مخابرات السيسي لمينيندير وزوجته.
وعلى الرغم من عدم صدور أي رد فعل من الجانب المصري، أو حتى تغطيته من قبل وسائل الإعلام المصرية، والتي تخضع لرقابة دقيقة من جهازي المخابرات العامة والأمن الوطني، إلا أن الاتهامات تسببت في عاصفة سياسية في واشنطن دفعت مسؤولين أمريكيين بعضهم مقرب من مينينديز لمطالبته بالاستقالة.
وتحت الضغوط الشديدة تقدم مينينديز باستقالته من رئاسة لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي مساء الجمعة 22 سبتمبر 2023م على خلفية اتهامات فيدرالية بالفساد ضده، وزوجته نادين مينينديز، ورجل الأعمال المصري الأمريكي، وائل حنا، والمسئولين المصريين. الادعاء العام الفيدرالي الأمريكي وجه للخمسة تهمتي «التآمر لارتكاب الرشوة»، و«التآمر لارتكاب عمليات احتيال»، فيما وجه تهمة «التآمر لارتكاب عمليات ابتزاز باستخدام السلطة» لمينينديز وزوجته فقط، بحسب لائحة الاتهامات المكونة من 39 صفحة، والتي نشرها الادعاء الأمريكي الجمعة.
وكشف العملاء الفيدراليون وجود سبائك ذهبية وأكثر من 480 ألف دولار نقداً مخبأة في منزل مينينديز في نيوجيرسي، التي زعموا أنه تم استلامها من رجل الأعمال المصري الأمريكي وائل حنا وآخرين مقابل خدمات، استفات حكومة السيسي من بعضها.
رشاوي السيسي للسيناتور
بهذه الاتهامات أصبح مينينديز أول سيناتور أمريكي يواجه اتهامات بالفساد مرتين. المرة الأولى كانت قبل أعوام قليلة، وانتهت محاكمته فيها إلى البطلان بعدما لم تتمكن هيئة المحلفين من الاتفاق على إدانته. لكن لائحة الاتهام هذه المرة تضمنت سجلًا زمنيًا للمقابلات والمراسلات التي جمعت مينينديز أو زوجته بمسؤولين مصريين لدعم النظام العسكري في مصر في التعامل مع حجب المعونة الأمريكية لمصر بسبب الاتهامات بانتهاكات حقوق الإنسان، ودعم مصر في ملف سد النهضة، إلى جانب دعم حنا في احتكار إصدار شهادات توريد اللحوم الحلال لمصر.
حسب لائحة الاتهام ففي عام 2018 رتبت نادين سلسلة اجتماعات جمعت مينينديز بمسؤولين بحكومة الانقلاب، تناولت الطلبات المتعلقة بالمبيعات العسكرية الأمريكية والتمويل العسكري الأمريكي وهي الاجتماعات التي انتهت بوعود من مينينديز بتسهيل تلك المبيعات وضمان التمويل العسكري لمصر. وفي مارس من العام نفسه التقى مينينديز بالمسؤول المصري الأول المذكور في لائحة الاتهام، كـ«مسؤول عسكري مصري»، إلى جانب «مسؤولين عسكريين مصريين» آخرين لمناقشة مسائل التمويل العسكري الأمريكي لمصر.
وفي مايو 2018، كشف مينينديز لحنا، بحسب لائحة الاتهامات، عن معلومات مفادها أن الولايات المتحدة رفعت الحظر عن مصر في ما يتعلق بالأسلحة الصغيرة والذخائر، وبندقيات القناصة إلى جانب أنواع أسلحة أخري، مشيرًا لبداية مبيعات الأسلحة الأمريكية لمصر. ولفتت اللائحة إلى رسالة أخرى طلب مينينديز من نادين أن ترسلها لحنا، يوليو 2018، تفيد بتوقيع مينينديز على بيع شحنة أسلحة لمصر تحتوي على 46 ألف قذيفة من عيار 120 ملم، وعشرة آلاف ذخيرة دبابات في صفقة قيمتها 99 مليون دولار، مضيفًا ملاحظة بأن ذخائر الدبابات هي الذخائر التي تستخدمها الحكومة المصرية في سيناء ضمن حملة مكافحة الإرهاب، ليرسل حنا الرسالة للمسؤول المصري الأول، «المسؤول العسكري».
لغز وائل حنا
تضمنت لائحة الاتهام قسمًا خاصًا بتهم الفساد الموجهة إلى حنا ومينينديز وزوجته لحماية شركة حنا (من أقباط المهجر وفتح شركة بمسمى إسلامي لتوريد اللحوم الحلال لمصر رغم أنه لا خبرة له في المجال، والتي احتكرت توريد اللحوم الحلال لمصر). ففي ربيع عام 2019، منحت الحكومة المصرية شركة حنا احتكارًا حصريًا لإصدار «شهادات الحلال» لمصر على الرغم من عدم امتلاك الشركة لأي خبرة سابقة في إصدار هذه الشهادات. ومكنت الشركة لاحقًا حنا من دفع الرشاوى لمينينديز وزوجته، التي أرسلت رسالة لمينينديز في اليوم التالي للاحتكار: «يبدو أن الحلال قد مر، قد يكون عام 2019 رائعًا على كافة الأصعدة».
التغاضي عن انتهاكات حقوق الإنسان
في 21 مايو 2019، التقى مينينديز وزوجته وحنا بالمسؤول المصري الثالث بلائحة الاتهام والتي حددت أنه يعمل بالمخابرات، والذي أشارت إليه نادين في رسائلها بـ«الجنرال»، وهو اللقاء الذي تضمن مناقشة المجموعة لانتهاكات حقوق الإنسان في مصر التي أدت لحجب أجزاء من المعونة الأمريكية السنوية المقدمة لمصر، كما رتبت نادين في يونيو 2021 لقاءً بأحد فنادق واشنطن العاصمة جمع بين مينينديز والمسؤول المصري الخامس في لائحة الاتهامات، والتي وصفته بمسؤول استخباراتي رفيع، وأرفقت صورة جمعتهم دون الكشف عن وجهه.
قدم مينينديز لمسؤول المخابرات الخامس نسخة من مقال يحتوي على الأسئلة التي يعتزم أعضاء مجلس الشيوخ طرحها عليه فيما يتعلق بملف حقوق الإنسان بمصر، دون أن تحدد لائحة الاتهامات هذه الأسئلة أو ما يُقصد بالملف الحقوقي المصري. عقب يومين من اللقاء بفندق العاصمة، اشترى حنا 22 سبيكة ذهب تزن أونصة واحدة لكل منها، عُثر على اثنين منهم لاحقًا أثناء تفتيش منزل الزوجين مينينديز، وبلغ سعرها وقتها حوالي 1800 دولار للأونصة الواحدة، كما حصل الزوجين على مئات الآلاف من الدولارات عبر الشيكات والنقود والسبائك الذهبية، والتي استردت الحكومة الأمريكية بعضها أثناء تفتيش مناطق سكنهما، واستمرت اللقاءات بين مينينديز وزوجته بالمسؤولين المصريين بحسب لائحة الاتهام حتى 2022.
تأثير الفضيحة على العلاقات الثنائية
وترى صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية أن مزاعم الرشوة التي تورط فيها مينينديز، من الممكن أن “تعرّض الترتيبات المصرية الأميركية للخطر”، مشيرة إلى مساعدات واشنطن للنظام العسكري في القاهرة، على الرغم من المخاوف المتعلقة بحقوق الإنسان. وجاء في الاتهامات أن مينينديز، الذي استقبله السيسي، في القاهرة، في 30 أغسطس 2023م، مع وفد من الكونجرس، “عمل سراً لتعزيز المصالح المصرية في الولايات المتحدة”. وبحسب الصحيفة الأميركية، فإن “تهم الرشوة، تضخ عنصراً جديداً قابلاً للاشتعال في علاقة واشنطن مع القاهرة، مما يمثل اختباراً لشراكة متوترة بالفعل بسبب المنافسة الإقليمية المتزايدة والخلافات بشأن حقوق الإنسان”.
واعتبرت أن “الأمر الذي قد يكون أكثر إثارة للقلق بالنسبة لإدارة الرئيس جو بايدن، لأن هناك مجموعة من المسؤولين المصريين الذين لم يتم ذكر أسمائهم، وعلى الأقل بعضهم من الجيش وأجهزة المخابرات المصرية، والذين وصفهم المدعون بأنهم يسعون للحصول على معلومات ونفوذ في التفاعلات المباشرة مع مينينديز وزوجته، أو عبر شركائهم”. ولفتت “واشنطن بوست” إلى أن “تلك الادعاءات المتعلقة بشريك أجنبي تاريخي، وأحد أبرز الشخصيات في البلاد في الشؤون الخارجية، تأتي في لحظة حساسة في علاقات واشنطن مع الشرق الأوسط، إذ تسعى إدارة بايدن إلى إعادة التركيز على الصين وروسيا مع تعزيز الأمن الإقليمي وطمأنة الشركاء أيضاً”.
ويرى أستاذ العلاقات الدولية عصام عبد الشافي، أن هذه الفضيحة تسلط الضوء على “طبيعة الدور الذي تؤديه أجهزة المخابرات المصرية والذي تغير، من أن تكون هذه الأجهزة معنية بشكل مركزي بقضايا الأمن القومي المصري، إلى أدوات لتنفيذ أهداف النظام السياسي، وهذا يطاول عدداً من الشخصيات، مما يعرّض هذه الأجهزة أو رموزها للملاحقات والابتزاز من الأطراف الإقليمية والدولية، في حال استمرار الكشف عن مثل هذه الممارسات”، مؤكدا أن حسب صحيفة “العربي الجديد” ــ أن”هناك ضوابط لإدارة العلاقات مع الدول، لكن هذه الضوابط مرتبطة كثيرا بالمصالح، ولطالما تقوم هذه العلاقات على مستويات رسمية، وأن النظام المصري لم يكن يتوقع أن تثار قضية بهذا الشكل وفي هذا التوقيت في الولايات المتحدة، ولكن للأسف الكثير من الأمور ستتكشف خلال المرحلة المقبلة، خصوصاً بعد ترتيب النظام لما يسمى بالانتخابات الرئاسية”.
الخلاصة المهمة من هذه الفضيحة أنها تمثل برهانا على سيطرة الفساد على بعض مؤسسات الحكم الأمريكية؛ فالكونجرس يحظى بثقة 19% فقط من الأمريكيين، وتآكلت شعبية البنتاجون من 70% قبل خمس سنوات إلى 48%. والأهم والأخطر أن المحكمة العليا تدحرجت الثقة فيها إلى 40%، وهي التي تعتبر صمام الأمان الرئيس للحقوق والحريات والحارس الأول والأخير للقانون. فأحد قضاتها التسعة كلارنس توماس، انكشفت ضده أخيراً فضائح من الحجم الكبير، راوحت بين سفريات بطائرة صديقه الملياردير، وإقامة في فنادق فخمة على حساب هذا الأخير، وقبول مساعدات مالية لأقاربه من دون أن يقر بها لدائرة الضريبة. وفي ذلك مخالفة مضاعفة. وما زالت القصص تتوالى عن سلوكه، وأثارت اعتراضات في الكونجرس مع مطالبات بسنّ قوانين إصلاحية لضبط السلوك في هذه المحكمة الفاصلة في أحكامها، خصوصاً بعد أن تبيّن أن معظم قضاتها تقبّلوا تقديمات، وإن أقل من القاضي توماس، لكنها تنزل في خانة توظيف الموقع لمكاسب، وإن بسيطة، من نوع السفر بطائرات خاصة ومدفوع الإقامة.