الحرب الدائرة حاليا منذ فجر السبت 7 أكتوبر 2023م، والتي تطلق عليها المقاومة الفلسطينية «طوفان الأقصى»، تفتح أبواب النقاش حول ما تسمى بـ«عقدة العقد الثامن» لإسرائيل؛ فلأول مرة في تاريخ دولة الاحتلال منذ إنشائها من جانب القوى الدولية في أعقاب الحربين العالمتين الأولى والثانية، تتعرض دولة الاحتلال لهجوم مباغت من جانب فصائل مقاومة فلسطينية تميز بالجرأة والشجاعة والتخطيط الدقيق والتنفيذ الاحترافي الذي أذهل العالم كله، وأسفر عن مقتل 1300 إسرائيلي وأسر نحو 250 إلى 300 أسير.
الصفعة كانت صادمة، والهجوم أسقط هيبة إسرائيل وجيشها المصنف 18 عالميا، لكن الخسارة الكبرى هي انعدام الثقة في نفوس الإسرائيليين أنفسهم تجاه جيشهم وحكومتهم؛ فلم يعودوا واثقين من قدرة هذا الجيش على حمايتهم بعد هذه الصدمة المدوية. لذلك ترتب على ذلك ثلاثة نتائج:
الأول، هو القصف العشوائي الذي لا يستهدف سوى الانتقام وإيقاع أكبر قدر ممكن الضحايا في صفوف الفلسطينيين في غزة؛ وتدمير البنية التحتية، وقصف المساجد والمدارس والمستشفيات، بعدما قصفوا الأبراج السكنية والبيوت فوق رءوس ساكنيها. وتحول الانتقام إلى هدف بحد ذاته من أجل استعادة هذه الهيبة المكسورة والثقة المفقودة. ولا تزال حكومة الاحتلال ترى أن ذلك ليس كافيا؛ وتتحدث عن محو حماس من الوجود، وتحرير الأسرى، وأخيرا ظهرت مخططات التهجير القسري لأهالي غزة إلى سيناء بهدف إلقاء المسئولية على كاهل مصر لتتولى إرادة أهالي غزة كلاجئين، وتتحكم في فصائل المقاومة وتقمعها كما قمعت الإخوان من قبل.
الثاني هو تداعي حلفاء إسرائيل من أجل إنقاذ المشروع الصهيوني؛ لأن الصدمة تهدد بقاء المشروع برمته؛ لذلك كان الدعم الأمريكي غير محدود، والدعم الأوروبي غير مسبوق، هم لا يكترثون لانتهاك حقوق الإنسان والقانون الدولي، بل يدعمون ببجاحة منقطعة النظير جرائم الاحتلال حتى لو وصلت إلى حد الجرائم ضد الإنسانية وارتكاب إبادة جماعية بحق أكثر من مليوني فلسطيني في القطاع. ورغم امتلاك إسرائيل لقوات محترفة تحظى بسمعة دولية كبيرة؛ فهي تمتلك جيشا لديه ما بين 650 و700 طائرة ولديها 4 آلاف دبابة، إضافة إلى 10 آلاف عربة قتال، وأكثر من 3 آلاف مدفع”، وفقا للمحلل العسكري فايز الدويري. ورغم كل ذلك أرسلت الولايات المتحدة حاملة الطائرات “جيرالد فورد” إلى شرق المتوسط، والحاملة الثانية في الطريق بخلاف فتح خزائن السلاح الأمريكي لمد جيش الاحتلال بكل ما يحتاج إليه من أحدث ترسانة السلاح الأمريكي؛ كل هذا من أجل رفع الروح المعنوية للصهاينة، وجيش الاحتلال.
الثالث، هو انتقال النزوح الذي ارتبط على الدوام بالفلسطينيين إلى الإسرائيليين؛ ففي أعقاب صدمة الأيام الأولى من “طوفان الأقصى”، أفرغ جيش الاحتلال نحو 24 من مستوطنات غلاف غزة، وأعلن أعلن المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلى، دانيال هجارى أن 500 ألف نزحوا داخل إسرائيل، وهم مستوطنون مهاجرون في الأصل، فيما أخليت مدينة سديروت بالكامل، وهي تضم نحو 20 ألف مستوطن، كما يتم إخلاء المستوطنات القريبة من الحدود الشمالية مع لبنان. وفي تقرير لصحيفة “هآرتس” العبرية تحت عنوان” قاتل حماس أو اهرب” تنقل عن أحد المستوطنين قوله «لقد هربنا إلى قبرص مباشرة بعد انطلاق صفارة الإنذار الأولى يوم السبت، أخبرني حدسي أن هذه لم تكن مجرد جولة أخرى، وكانت أعصابي متوترة لمدة 10 أشهر بسبب هذا البلد الذي جن جنونه علينا”. وشهدت مطارات الاحتلال زحاما شديدا؛ ومعظم من يخرجون لا يعودون من جديد؛ وهو ما يضرب عمق العقيدة الصهيونية التي تقوم على عنصر الإحلال والاستقرار وتشجيع الهجرة المكثفة إلى “أرض الميعاد”، والذي كان هاجس الوكالة اليهودية منذ تأسيسها عام 1922م. فقد وعدوا (بضم الواو) بالحياة الرغيدة فإذا بهم قد يقتلون أو يؤسرون! .. هذه التطورات تعطي انطباعا للإسرائيليين عما قد يحصل مستقبلا، فباتوا يتفقدون جوازاتهم البديلة المكتسبة بحكم جنسياتهم الأصلية القديمة أو تلك التي حصلوا عليها لاحقا لاستخدامها للهروب من إسرائيل عند الضرورة؛ أليسوا أحرص الناس على حياة؟
“33%” يفكرون في الهجرة
وتكشف نتائج استطلاع رأي نشرته صحيفة “هآرتس”، أن 33% من سكان إسرائيل يفكرون فعليا بالهجرة والانتقال للعيش في أوروبا وأميركا بسبب حكومة نتنياهو المتطرفة وسياساتها التي لا تحظى بالدعم الشعبي، وبما أن نصف سكان إسرائيل تقريبا ما زالوا يحملون عمليا جوازات سفر بلدانهم الأصلية (الأشكناز) فإنهم جاهزون لاستخدامها في حال اقتضى الأمر الهرب. ونشرت الصحيفة بيانات صادرة عن مركز الإحصاء الإسرائيلي يشير إلى أن عدد اليهود الذين غادروا إسرائيل عام 2015 -أي بعد معركة العصف المأكول- بلغ 16 ألفا و700 شخص عاد منهم 8500 فقط. كما ذكرت تقديرات إحصائية إسرائيلية أن نحو 800 ألف مستوطن ممن يحملون جوازات سفر إسرائيلية يقيمون بصورة دائمة تقريبا في دول عدة ولا يرغبون بالعودة إلى إسرائيل. وبحسب صحيفة معاريف الإسرائيلية، فإنه حتى عام 2020 غادر أكثر من 756 ألف يهودي إسرائيل للعيش في بلدان أخرى، ويعود ذلك إلى تدهور الوضع الاقتصادي وعدم المساواة والإحباط بسبب تعثر مسار السلام، بالإضافة إلى تصاعد عمليات المقاومة الفلسطينية.
ويشير الباحث الفلسطيني جورج كرزم في كتابه “الهجرة اليهودية المعاكسة ومستقبل الوجود الكولونيالي في فلسطين” الصادر عام 2018 إلى أن “أكثر من نصف اليهود الإسرائيليين قد أعلنوا في ظروف سلمية أنهم يفكرون بترك إسرائيل، وأن نحو 70% من الإسرائيليين يتوجهون للحصول على جنسية أخرى أو فكروا في ذلك”. أما في ظروف الحرب -مثل التي تجري حاليا- أو في ظروف مواجهة طويلة الأمد مع إسرائيل وفقدان أسباب البقاء فإن هذا العدد سيتضاعف، وفي حال نفّذ نصف العدد المذكور فكرتهم في الهجرة العكسية فإن إسرائيل ستفقد عمليا ربع سكانها على الأقل، مما يعني تآكل إسرائيل وتفوق عدد السكان العرب تدريجيا بفعل الزيادة السكانية المرتفعة لديهم.
نبوءة إيهود باراك
وكثرت التحليلات حول عقدة العقد الثامن لأي دولة يهودية؛ وتنبأ رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك، بزوال إسرائيل في عيد ميلادها الثمانين؛ حين أبدى مخاوفه من قرب زوال إسرائيل قبل حلول الذكرى الـ80 لتأسيسها، مستشهدا بـ”التاريخ اليهودي الذي يفيد بأنه لم تعمّر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتين استثنائيتين”. وفي مقال له في مايو 2022 بصحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية، قال باراك “على مرّ التاريخ اليهودي لم تعمر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتين: فترة الملك داود وفترة الحشمونائيم، وكلتا الفترتين كانت بداية تفككها في العقد الثامن”. وأضاف باراك أن تجربة الدولة العبرية الصهيونية الحالية هي التجربة الثالثة وهي الآن في عقدها الثامن، وأنه يخشى أن تنزل بها لعنة العقد الثامن كما نزلت بسابقتها.
العجيب أن نبوءة إيهود باراك تكاد تقترب تماما من نبوءة الشيخ الشهيد أحمد ياسين، حين توقع زوال إسرائيل ونهاية المشروع الصهيوني سنة 2027م، في حلقة بلا حدود مع الإعلامي أحمد منصور بتاريخ 5 يونيو 1999م.