بقلم/ أحمد عبد العزيز
في عام 1916، وعندما كان ممثلا بريطانيا وفرنسا “يشخبطان” بقلميهما على خريطة الإمبراطورية العثمانية؛ لتقسيم أراضيها بينهما، بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، كان هناك جنين يحاول مغادرة رحم أمه اليهودية البريطانية، ومعه ما يكفي من الشر والحقد لاعتبار مخطط سايكس- بيكو التفتيتي خطأ يجب أن يصحح، والخطأ حسب اعتقاده، هو أن التفتيت لم يكن كافيا للدرجة التي تغرق العرب والمسلمين في حروب أهلية باسم القومية، أو الطائفية أو القبلية، فتسلبهم مقومات النهوض والنهضة، ومن ثم، فإن فتافيت سايكس- بيكو بحاجة إلى مزيد من التفتيت.
إنه المؤرخ والمستشرق برنارد لويس، البريطاني المولد، اليهودي الديانة، الصهيوني الهوى والانتماء، الأمريكي الجنسية، عراب التطرف والعدوان الذي طال بلاد العرب والمسلمين أثناء رئاستي آل بوش الأب وابنه، وخلّف ملايين القتلى والمعاقين والنازحين واللاجئين، فضلا عن الدمار الهائل للبنية التحتية وأسباب الحياة، منذ حرب العراق، مرورا بحرب أفغانستان، وانتهاء بحرب غزة التي تخوضها الولايات المتحدة بالإصالة عن نفسها، وليس نيابة عن إسرائيل كما يظن البعض.
الإجابة بكل أسف ممزوج بالألم: نعم، بل بدأ ووقع بسعي حثيث، وجهد سياسي وإعلامي واضح من السلطة المركزية المنوط بها الحفاظ على استقلال الوطن ووحدة وسلامة أراضيه.
يقول برنارد لويس في تصريح منسوب له: إنه “من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية، ولا داعي لمراعاة خواطرهم، أو التأثر بانفعالاتهم وردود الأفعال لديهم، ويجب أن يكون شعار أمريكا في ذلك، إما أن نضعهم تحت سيادتنا، أو ندعهم ليدمروا حضارتنا، ولا مانع من أن تكون مهمتنا المعلنة هي تدريب شعوب المنطقة على الحياة الديمقراطية، ويجب أن تقوم أمريكا بالضغط على قياداتهم الإسلامية دون مجاملة ولا لين ولا هوادة، ليخلصوا شعوبهم من المعتقدات الإسلامية الفاسدة، ولذلك، يجب تضييق الخناق على هذه الشعوب ومحاصرتها، واستثمار التناقضات العرقية، والعصبيات القبلية والطائفية فيها، قبل أن تغزو أمريكا وأوروبا وتدمر الحضارة فيهما”. انتهى الاقتباس.
وبغض النظر عن صحة هذه التصريح أو لا، فإن محتواه يتطابق هندسيا مع الواقع المشهود، في كل من العراق، وسوريا، واليمن، والسودان الذي ينتظر مزيدا من التفتيت شرقا وغربا وشمالا، بعد انفصال الجنوب، وها هي مصر تخطو خطوتها الأولى نحو التفتيت، بمباركة ودعم سلطتها المركزية، ولا عجب في ذلك إذا كان الذي يحكم مصر عدوا لمصر وللمصريين.
ماذا عن مصر؟
حسب مخطط لويس فإن مصر يجب تفتيتها إلى أربع دويلات على النحو التالي:
دويلة عربية أو “أعرابية”عاصمتها العريش ، استنتاج شخصي لأسباب موضوعية كثيرة، وتضم سيناء وشرق الدلتا، وتقع تحت النفوذ الصهيوني، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من إسرائيل الكبرى، وقد تم الإعلان عنها قبل أيام في وسائل الإعلام المصرية الرسمية، بصورة تبدو ناعمة، برئاسة المدعو إبراهيم العرجاني، وسنعود للحديث عن هذا الحدث الجلل، بقدر ما يسمح به المجال في هذا المقال.
دويلة مسيحية أو “قبطية”
عاصمتها الإسكندرية، وتضم المسيحيين أو أقباط مصر، وتمتد من جنوب أسيوط في الجنوب مرورا ببني سويف في الوسط، أو ما يسمى تاريخيا مصر الوسطى، ثم وادي النطرون، وصولا إلى الإسكندرية، وتضم أجزاء من الساحل الشمالي حتى مرسى مطروح، ولم يعد خافيا أن غرب مصر بات منطقة نفوذ فرنسية، لا يقع شيء فيها من الجانب المصري إلا بالتنسيق مع فرنسا، ولا أحسب أن القبائل العربية والأمازيغية المسلمة في الغرب المصري، ستقبل بأي حال هذا الوضع الشاذ الذي لم يعرفوه من قبل.
كما لا يخفى على المتابع للشأن المصري النعرة الكَنَسِيَّة التي تتردد منذ فترة ليست بالقصيرة: إن “مصر تعرضت لغزو عربي، جعل الأقباط مواطنين من الدرجة الثانية، ومن ثم فهم توَّاقون (الأقباط) لتصحيح هذا الوضع الذي مضى عليه نحو 1500 عام، وهذه مغالطة منطقية وتاريخية شنيعة لا مجال لمناقشتها وتفنيدها في هذا المقال.
دويلة نوبية
عاصمتها أسوان، وتضم جنوب مصر وشمال السودان من الشرق إلى الغرب وهي المنطقة المعروفة تاريخيا باسم بلاد النوبة، وتلتحم جنوبا مع دولة البربر التي ستمتد من جنوب المغرب حتى البحر الأحمر، ولا يخفى على المتابع والباحث في الشأن النوبي أن التجمعات النوبية خارج بلاد النوبة، تجمعات مغلقة مترابطة ومحافظة على عاداتها وتقاليدها حد التقديس، وكثير منهم (إن لم يكن كلهم) يشعرون بالغبن والاضطهاد والتهميش، منذ عهد عبد الناصر الذي غمر أراضيهم بمياه النيل وهجرهم منها، أثناء بناء السد العالي، ووعدهم بالتعويض ولم يفعل، ولم تتم تسوية أوضاعهم حتى اليوم، ما يعني أن هناك أسبابا موضوعية للتمرد والانفصال إذا سنحت الفرصة.
دويلة “إسلامية”
عاصمتها القاهرة، وهي الجزء المتبقي من مصر، وتقع أيضا ضمن النفوذ الصهيوني باعتبارها جارا لما يسمى إسرائيل الكبرى، يجب على الصهاينة تحييده، أو ضمه، ولعل ذلك الوضع البائس المزري يناسب مُدَّعِي السلفية لصناعة نموذجهم الأجوف للمجتمع المسلم الذي يتصورنه، ويدعون إليه، مجتمع سطحي، لا يعرف من الدين سوى اللحية والنقاب، سلبي لا يهمه أمر غيره من المسلمين، وإن تكالب عليهم الأعداء من كل حدب وصوب.
مما تقدم، نلاحظ أن مخطط لويس لتفتيت مصر قام على أساس ديني وقومي، مسيحية وإسلام ونوبي وعربي.
العرجاني رئيسا لأول “فتفوتة”
عودة إلى السؤال عنوان المقال: هل بدأ تنفيذ مخطط “برنارد لويس” لتفتيت مصر؟
الإجابة بكل أسف ممزوجة بالألم: نعم، بل بدأ ووقع بسعي حثيث، وجهد سياسي وإعلامي واضح من السلطة المركزية المنوط بها الحفاظ على استقلال الوطن ووحدة وسلامة أراضيه؛ حسب نص القسم الدستوري الذي لم يفِ به حتى اليوم فيما أعلم سوى الرئيس الشهيد محمد مرسي الذي راح ضحية الوفاء بهذا القسم.
لم يبق مظهر من مظاهر الانفصال عن السلطة المركزية إلا استوفاه العرجاني، بتكليف ودعم من جنرال الانقلاب، مختطف هذه السلطة المركزية منذ الثالث من تموز يوليو 2013، بعد انقلابه على الرئيس الشرعي المنتخب رحمه الله.
لقد صمم العرجاني علما لدولته التي أعلنها تحت اسم “اتحاد القبائل العربية”، وكوَّن مليشيا، لتكون بمثابة جيش لدويلته، بحجة مساعدة الدولة في محاربة الإرهاب، أو التكفيريين في قول آخر، وأطلق بيانا من الإعلام المصري (بعد قطع البث، ولا يُقطع البث في الإعلام الرسمي إلا بأوامر سيادية، أو في حالة الانقلاب) يناشد فيه الأمم المتحدة التدخل لمنع العدو الصهيوني من الهجوم على رفح، وسار إلى جواره المسؤولون المحليون في سيناء مدنيون وعسكريون كأتباع له يأتمرون بأمره، وتجول في دويلته بمواكب رسمية على مد البصر والعين متحدثا رسميا باسم دويلته، وهو إعلامي النظام في كل العصور مصطفى بكري، كما كلف مؤلف أهازيج أو “شيلات” حسب التسمية الخليجية، بتأليف نشيد رسمي يتغنى باسمه، ووعد كل من يضع هذه “الشيلة” في فيديو، على تطبيق “TikTok”، بهاتف “آيفون”، حسب ادعاء ناشري هذه الشيلة على هذا التطبيق.
تقول الأهزوجة أو “الشيلة”: “الحاج إبراهيم العرجاني يا فخر السيناوية، .. يعيش أبو عصام، شيخنا السبع الضرغام.. في قلوبنا على المدام [الدوام] يا رب ما تشوف رِدِيَّة [سوء أو شر]”.
وعلى ما يبدو أن هذه المظاهر السيادية أقنعت بعض العالقين المصريين في غزة؛ إلى حد مناشدة أحدهم الشيخ إبراهيم العرجاني، مد يد العون له وإعادته إلى مصر.
أرض (خُمس مساحة مصر)، شعب (قل العدد أو كثر لا يهم)، أصول وموارد (محاجر ومصانع وشركات وموانئ وفنادق ومطارات) علم.. جيش.. نشيد.. علاقات دولية مارسها من خلال الإعلام الرسمي، فماذا بقي من مظاهر الانفصال عن الوطن لم يأت به العرجاني، أو بالأحرى لم يرتكبه، بدعم مباشر من الجنرال المنقلب الذي أقسم بالله العظيم حانثا أن يحافظ على استقلال الوطن ووحدة وسلامة أراضيه؟.
على من يريد تبرئة الجنرال المنقلب من هذه الخيانة العظمى إطلاق صافرة التقسيم، أو نزع أول إقليم من مصر، أن يتذكر بيعه تيران وصنافير للسعودية، وتنازله عن حصة مصر التاريخية في مياه النيل، وتفريطه في مياه مصر الاقتصادية في شرق المتوسط، وما بها من غاز وبترول، لصالح العدو الصهيوني وقبرص اليونانية واليونان؛ نكاية في تركيا، وبيع أصول مصر لكل من هب ودب، نحن أمام عدو حقيقي لمصر، وليس أمام مصري خائن فحسب.
كل ذلك جرى تحت سمع وبصر صبري نخنوخ البلطجي الذي خرج من السجن بعفو من الجنرال المنقلب؛ ليترأس شركة “فالكون”، أكبر شركة حراسات خاصة في مصر والتي تملكها الأجهزة الأمنية ويعمل فيها ضباط سابقون.
فهل يسكت نخنوخ؟ طبعا لا..
عمل إيه نخنوخ؟
ولا حاجة.. أرسل برقية تعزية منشورة إلى رئيس مجلس السيادة في السودان عبد الفتاح البرهان، يُعرب فيها عن تعازيه ومواساته في وفاة نجل البرهان في حادث سير بتركيا.
يخلص الموضوع على كده؟ طبعا لا.
فين أيام السيادة الجميلة التي حاكم فيها عبد الناصر نفرا من الإخوان المسلمين بتهمة مقابلة مستر إيفانز الدبلوماسي البريطاني في القاهرة، رغم أنه هو الذي طلب إلى الإخوان الاتصال به؛ لمعرفة شروط الإنجليز للجلاء عن مصر.
تقع عيني هذا الصباح على سيدة مصرية تناشد “المعلم صبري نخنوخ” التدخل لحمايتها من أشخاص ادعت أنهم اعتدوا عليها، وألقوا بأثاث بيتها في الشارع.
مصري في غزة يناشد العرجاني إخراجه منها، ومصرية تناشد نخنوخ التدخل لحمايتها من بلطجية مثله، فأين مؤسسات الدولة؟ أين الخارجية والداخلية؟ الكل غياب بأمر الجنرال المنقلب.
العرجاني ونخنوخ يتمددان خارج مصر، الأول يخاطب الأمين العام للأمم المتحدة من الإعلام الرسمي للدولة بعد قطع البث، والآخر يعزي رئيس دولة في وفاة نجله، وعلينا ألا نغفل خلفية كل من العرجاني العربي، الذي أعلنت السلطة المركزية قيام دويلته في إعلامها الرسمي، ونخنوخ (القبطي) الذي يعيش تحت “الاحتلال العربي” وتسعى كنيسته للتحرر من هذا “الاحتلال”.
أيها المصريون، إذا كان الجنرال المنقلب ياسر جلال هو المجرم الأول في هذه الخيانة العظمى (تقسيم مصر)، فإن كل من خرج على الرئيس محمد مرسي وسعى لإسقاطه شريك له في هذه الخيانة التي لا تسقط بالتقادم، كل على قدر ما قام به، ليس هذا فحسب، بل إن كل النخبة المصرية في الداخل والخارج وأنا من جملتهم شركاء في هذا الخيانة إن لم نعمل جاهدين على إجهاض هذا المخطط التفتيتي الذي لا يزال في بدايته.