بقلم/ قطب العربي
حراك من نوع مختلف شهدته مصر خلال الأيام الماضية، ولا يزال قائما، جانب منه نقابي مهني قادته نقابة المحامين ضد مشروع قانون جديد للإجراءات الجنائية وانحازت إليها نقابتا الصحفيين والمهندسين، وبالتوازي هناك حراك عمالي للمطالبة بتطبيق الحد الأدنى للأجور الذي حددته الحكومة مؤخرا وماطلت إدارات بعض الشركات في تنفيذه.
الحراك النقابي -الذي يمثل موجة جديدة في الإطار الفئوي- حمل بعدا سياسيا باعتبار أنه اعتراض على قانون يمثل إرادة السلطة الحاكمة، وقد جرت محاولات لتسويقه باعتباره تحسينا في المنظومة القانونية كتنازل من السلطة، ولكن هبّة النقابات المهنية وعلى رأسها نقابة المحامين إضافة إلى المنظمات الحقوقية والأحزاب المعارضة ضده كشفت زيف هذا التسويق، وكشفت احتواء المشروع الجديد على المزيد من القيود على العدالة، وحقوق المتهم خلال التحقيق، وحقوق المحامين.
قانون الإجراءات الجنائية نموذج للتحايل السياسي المكشوف، حيث استدعى النظام عبر مؤسسة الحوار الوطني العديد من الخبراء الحقوقيين والمعتقلين السابقين إلى جلسة استثنائية لبحث تخفيف قيود الحبس الاحتياطي، الذي كان ولا يزال أحد أبرز الانتهاكات. فالحبس الاحتياطي في أصله القانوني هو إجراء احترازي ضد متهمين يُخشى هروبهم، أو تأثيرهم على مسار التحقيقات حال تركهم طلقاء، إلا أن السلطات المصرية -وعبر جهات التحقيق القضائي- حولته إلى عقوبة بحد ذاته.
قانون الإجراءات الجنائية نموذج للتحايل السياسي المكشوف، حيث استدعى النظام عبر مؤسسة الحوار الوطني العديد من الخبراء الحقوقيين والمعتقلين السابقين إلى جلسة استثنائية لبحث تخفيف قيود الحبس الاحتياطي، الذي كان ولا يزال أحد أبرز الانتهاكات
القانون المعدل في العام 2014 وضع للحبس الاحتياطي حدا أقصى عامين في الجنايات الكبرى، إلا أن سلطات التحقيق (التي تنتظر في هذا القضايا توجيهات عليا) مددت الحبس الاحتياطي لفترات لامست السنوات العشر لبعض المحبوسين، من خلال إعادة تدويرهم على اتهامات جديدة من داخل محابسهم، دون تقديمهم إلى المحكمة، نظرا للافتقاد إلى أدلة حقيقية.
قبل شهور قليلة من متابعة الملف الحقوقي المصري في الأمم المتحدة في كانون الثاني/ يناير المقبل، انتبهت الحكومة المصرية إلى ضرورة إدخال بعض التحسينات فيما يخص الحبس الاحتياطي، وهي ضمن تعهدات أخرى سبق أن تعهدت بها في مراجعة سابقة، ومن هنا كانت تلك الجلسة المفاجئة للحوار الوطني والتي أنتجت جملة من التوصيات لتخفيف مدد الحبس الاحتياطي، وتقديم بعض البدائل له، وكذا تعويض من تعرضوا لحبس احتياطي ظالم.
لم يكن الهدف هو تخفيف الحبس فعلا، إذ لو كان الأمر كذلك لكان من الأجدى والأسرع تطبيق القانون الحالي رغم مساوئه، والذي يجعل الحد الأقصى لهذا الحبس سنتين، وعند تطبيق هذا القانون فإن آلاف المحبوسين احتياطيا سيخرجون من محابسهم على الفور، لأنهم أنهوا المدة القصوى بل تجاوزوها، لكن الهدف كما ذكرنا هو “تسديد خانات” في الأمم المتحدة، وعند انتهاء المهمة قد تعود السلطات إلى سابق عهدها (نتمنى أن لا يحدث ذلك).
كان الهدف الثاني لهذه التعديلات هو تزيين قانون الإجراءات الجنائية لتسهيل تمريره في البرلمان بما يتضمنه من قيود جديدة أو قديمة، وكأن النظام يأخذ باليسار ما يمنحه باليمين، إلا أن هبّة المحامين والمنظمات الحقوقية والنقابات المهنية فضحت هذه المحاولة، وكشفت القيود الجديدة التي تضمنها المشروع.
على الجانب الآخر، وأقصد به الحراك العمالي الذي شمل عدة شركات مملوكة للدولة وليس القطاع الخاص، وهي “سمنود للوبريات”، و”الشوربجي”، و”فينيسيا للسيراميك”، فإنه يمثل تغيرا جديدا في الحراك العمالي الذي تركز الكثير منه في الفترة السابقة على شركات القطاع الخاص، كان الحراك من إضرابات واعتصامات وتظاهرات موجها ضد إدارات هذه الشركات المعينة من قبل هيئات رسمية.
يعتبر الحراك العمالي جرس إنذار للنظام بوصول الغضب الشعبي إلى محطة خطيرة، حيث كانت موجة الحراك العمالي السابقة لثورة يناير إيذانا باقتراب الثورة، وخاصة إضراب عمال شركة غزل المحلة وهي أكبر شركة من نوعها في مصر والشرق الأوسط، في السادس من نيسان/ أبريل 2008، والذي شهد إسقاط صور مبارك في الشوارع لأول مرة علنا، ومن ذلك الحراك ولدت حركة 6 أبريل التي شاركت في قيادة الثورة لاحقا.
الحراك النقابي والعمالي الأخير جاء بديلا للحراك السياسي الممنوع بقوة القمع الأمني من ناحية، وبضعف الأحزاب السياسية وعدم استعدادها للتضحية من ناحية أخرى، فهي تدرك أن ضريبة الحراك غالية وليس بوسعها تحملها
وبالتالي، فإن هناك مخاوف أمنية من أن يمهد الحراك العمالي الحالي لموجة ثورية جديدة، وإن كانت هناك تقديرات معاكسة ترى أن هذا الحراك سيظل تحت السيطرة، وأن النظام قادر على السيطرة عليه قبل بلوغه مرحلة الخطر. وقد ألقت قوات الأمن القبض على العشرات من قادة العمال بالفعل حتى الآن.
حل الأزمة لا يبدو مستحيلا إذ تتركز مطالب العمال حول تسوية أوضاعهم بأقرانهم فيما يخص الأجور والمعاشات، وهو ما يمكن للحكومة أن تفرضه على إدارات الشركات مع توفير السيولة اللازمة لها، ولو عبر قروض جديدة من الحلفاء الذين يهمهم استقرار النظام حفاظا على مصالحهم واستثماراتهم.
الحراك النقابي والعمالي الأخير جاء بديلا للحراك السياسي الممنوع بقوة القمع الأمني من ناحية، وبضعف الأحزاب السياسية وعدم استعدادها للتضحية من ناحية أخرى، فهي تدرك أن ضريبة الحراك غالية وليس بوسعها تحملها خاصة مع وجود الكثير من أعضائها في السجون حاليا.
منذ منتصف التسعينات لعبت النقابات المهنية المصرية أدوارا وطنية عوضت ضعف الأحزاب، لكن مستوى القمع الحالي قد لا يمكنها من تكرار الدور ذاته، وإن ظلت كل الاحتمالات مفتوحة مع حدوث تطورات أخرى.